أيها الإخوة المؤمنون

لم يبق بيننا وبين الشهر الفضيل، شهر رمضان شهر الجود والإحسان والعتق من النيران إلا أيام معدودات، ولذلك نتوسل إلى الله تعالى ألا يهل علينا هلال رمضان إلا وقد حقق للأمة غاياتها، وأذهب عنها الغمة، وفرج كرباتها، وأن يفك الحصار عن هذا البلد الطيب، وأن يُسمح لمن يعيش على أرضها بزيارة الأماكن المقدسة وأداء مناسك العمرة، إذ منع المسلمون من أداء هذه الشعائر لا يجوز.

يجب علينا أن نستعد لاستقباله الاستقبال المطلوب، وأن نعد له العدة المطلوبة، وأن تلهج ألستنا بالدعاء إلى الله تعالى " أن يبلغنا شهر رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يريده لنا من البر والتقوى"، إذ هذا الشهر مليء بالخيرات والبركات، فهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وهو شهر الجود والإحسان، وليس ذلك لأمة غير أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستقبل شهر رمضان بالصوم في شهر شعبان، فلقد وردت عدة أحاديث تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم الشهر كله، وفي بعضها كان يصوم بعض شهر شعبان، ومن كانت له العادة بصوم الإثنين والخميس فليستمر في ذلك، وليصم ما تبقى من شعبان، وهذا لا يدخل في النهي الوارد عن عدم جواز تقديم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، بل يجوز لمن عليه القضاء أو له العادة أن يصوم ذلك.

ومن أهم الاستعدادات المطلوبة هو الإرادة والعزم والقصد، وهو أن نعزم على تحقيق ما أراده الله تعالى لنا من خل فرض صيام رمضان، إذ يريد الله تعالى لنا عدة أمور أساسية، ومن أهمها أمران:

الأول: التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[1]، والتقوى كلمة جامعة لكل الخيرات، وهي الوقاية أي أن ينزم الإنسان عزماً حازماً واثقاً صادقاً على أن يحقق التقوى، فيمتنع فيه عن المباحات من أكل وشرب وشهوة، فمن الأولى أن يمتنع في هذا الشهر عن ارتكاب الفواحش والمنكرات والمحرمات من كذب ونميمة ونشر للشائعات، وغير ذلك مما جعله الله حراماً، بل يستمر المؤمن على تلك الحالة حتى بعد رمضان، فهو رباني وليس رمضاني.

وليس لأحد إذا وقع في المنكر أن يلقي باللوم والعتاب على الشياطين ومردته، إذ ورد في الحديث الصحيح الثابت في بيان فضل هذا الشهر العظيم:" إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ"[2]، فمردة الشياطين مصفدة ومقيدة بالسلاسل والأغلال، ومن اغتر بالشياطين فبشره بالخلان، إذ الشيطان يتبرأ من أتباعه يوم القيامة، وحين يستقر أهل النار في النار، ويسارعون إلى الشيطان معاتبين ولائمين، فيقول لهم الشيطان { فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[3]. وتبقى شياطين الإنس تسرح وتمرح وتغوي وتفسد وتضل من خلال وسائل الإعلام وشبكات التواصل المختلفة، التي تعج بالإعلام الهابط، حيث تستعد طيلة العام بإنتاج المغريات والمفسدات لإفساد شهر رمضان على المسلمين.

وهنا لا بد أن نذكر إخوتنا في وزارات الإعلام بمسؤولياتهم أمام الله تعالى، فليحذروا أن يقدموا للأمة وأجيالها إلا كل خير وصالح، وإعلاماً يقوي في الأمة عزيمتها، ويؤسس مكانتها، وينهض بعزيمتها، ومسؤوليتهم لا تعفينا ــ أفراداً ــ من المسؤولية أمام الله تعالى.

ليجعل المؤمن شعاره في هذا الشهر" بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ"[4]، حتى يحقق الغاية الأولى من صيامه وهي التقوى، فمن كان ذا خير فليقبل على الإكثار منه في هذا الشهر الفضيل، ومن كان من المسرفين على أنفسهم فليمتنع عن المنكر في هذا الشهر، ألا يكفيه إسرافاً على نفسه أحد عشر شهراً؟

ثم بين صلى الله عليه وسلم فضل الله تعالى في العتق من النار، فقال:" وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ"[5]، فلا بد أن يصل المؤمن بفضل الله تعالى إلى هذه الغاية، وهي العتق من النار، ولا ينال ذلك إلا إذا كان شعاره" بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ"، مطبقاً ذلك في سلوكه، ومتأثراً بذلك في صفاته، وبذلك تتحقق له الإرادة في الوصول إلى التقوى، الغاية الأسمى من فرض صيام رمضان.

الأمر الثاني الذي يريده الله تعالى لنا الوصول إليه من خلال الصوم، الإحساس بالفقراء والمساكين، والشعور بمن يعضهم الجوع، وتهلكهم المسغبة.

ولئن كان شهر رمضان شهر الجود والإحسان فهذا لا يعني إباحة الإسراف والتبذير، والتبذير هو الإنفاق في الحرام، وقد جعل الله تعالى المبذر من إخوان الشياطين {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}[6]، أما الإسراف فهو الإنفاق الزائد عن الحاجة في الحلال والمباح، وهو صفة لا يحبها الله تعالى، وقد نهى عن الإسراف بكل أشكاله وألوانه، فقال تعالى:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[7]، وقد وجدت دراسات عديدة حول الإسراف وما يسرفه المسلمون فوق حاجاتهم، وبخاصة أهل الخليج، وفي شهر رمضان بالذات، تقول إحدى هذه الدراسات: لو جمعنا الأموال التي تهدر في شهر رمضان في العزائم والولائم، وخصصناها للفقراء لسدت حاجة 50% من فقراء المسلمين لمدة ستة أشهر.

إكرام الضيف لا يعني التجاوز والإسراف، بل يرتب الأمر بحيث يدفع ما زاد عن الحاجة إلى العمال والفقراء والمساكين، إذ يوجد في عالمنا الإسلامي حوالي 600 مليون نسمة تحت مستوى الفقر، ونحن مسؤولون عنهم أمام الله تعالى، وسيسألنا عنهم، ويحاسبنا على تفريطنا وتقصيرنا نحوهم.

الأمر الثالث من الأمور الأساسية التي نستقبل بها شهر رمضان التوبة الخالصة لله رب العالمين، وليست التوبة مجرد كلمة تقال، ولكن التوبة المعتبرة هي القائمة على الأسس، والالتزام بشروطها؛ إذ لها ثلاثة شروط إذا كانت التوبة في حق من حقوق الله تعالى، وهي:

•              الإقلاع عن الذنب.

•              الندم على فعل المعصية، أو التقصير.

•              العزم على عدم العودة إلى الذنب أبداً، وليس التوبة الصادقة العودة إلى المعصية، قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[8].

وأما إذا كانت التوبة في حق العباد، فزيادة على ما تقدم من الشروط، عليه أن يستبرئ من صاحبها، ويطلب المسامحة منه، وأن يعيد الحقوق لأصحابها.

وهذا سهل في الحقوق المالية، أما في الحقوق المعنوية فالأمر صعب، ومن الحقوق المعنوية الغيبة والنميمة والكذب.

علينا ألا نقع في أعراض الناس، وعلى من وقع في ذلك المبادرة إلى الاستبراء من صاحبها، والمسارعة إلى طلب العفو، حتى لا يأتي يوم القيامة مفلساً من الأعمال بسبب ما ارتكب من الآثام.

كما أنه يجب على المؤمن أن لا يقف عند حد ما، بل عليه أن يزيد من الأعمال التي تحببه إلى الله تعالى وتقربه منه، وأن يبتعد كل البعد عن ما يخزيه أمام الله تعالى، ولا يجوز له أن يراوح في مكانه، ولا أن يقف ويقول: اكتفيت، لأن التوقف هو الخطوة الأولى نحو التقهقر، قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[9]، فلا بد لنا أن نتقدم في العبادات، ولا بد أن نتقدم في الإبداعات، ولا بد أن نتقدم في الأعمال الدينية والدنيوية.

كما أن شهر رمضان شهر الدعاء، وقد ذكر الله تعالى ذلك وبينه فور بيانه وجوب صوم رمضان، فقال تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[10].

فإذا تحققت هذه الأمور الأساسية في صوم رمضان كان صومنا عبادة، فيها خوف وخشية من الله تعالى، تحقق لنا وعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم من الرحمة والمغفرة والعتق من النار.

الخطبة الثانية:

علينا أن نستعد لشهر الجود والإحسان بمزيد من الصدقات والزكوات والخيرات، بل علينا أن نتسابق في الخيرات، فإن الله تعالى لما تحدث عن أهل الفردوس الأعلى وصفهم بصفة عظيمة جداً، فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[11]، وهذه أعظم آية في الخوف والخشية من الله تعالى.

أعطوا كل أموالهم وهو مشفقون من السؤال أمام الله تعالى أن يكونوا قصروا، أو أعطوا من غير إخلاص.

ثم وصفهم الله تعالى بصفة أخرى عظيمة {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[12]، يسبقون كل مريد للخير.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.

أهم ما ترشد إليه الخطبة:

  1. وجوب التغيير والإرادة.
  2. كيفية الاستعداد لشهر رمضان.
  3. بيان الغاية العظمى من الصيام.
  4. بيان تحريم الإسراف والتبذير.
  5. وجوب التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
  6. الإحساس بالفقراء والمساكين في كل مكان.
  7. المسارعة في الخيرات والتسابق فيها إرضاء لله تعالى.

 

11 / 5 / 2018 م

 


[1] سورة البقرة، الآية 183

[2] رواه البخاري في صحيحه برقم 3103، ومسلم في صحيحه برقم 1079.

[3] سورة إبراهيم، الآية 22

[4] رواه الترمذي في سننه برقم 682

[5] رواه الترمذي في سننه برقم 682

[6] سورة الإسراء، الآية 27

[7] سورة الأعراف، الآية 31

[8] سورة النساء، الآية 17

[9] سورة المدثر، الآية 37

[10] سورة البقرة، الآية 186

[11] سورة المؤمنون، الآية 60

[12] سورة المؤمنون، الآية 61