أيها الإخوة المؤمنون خلق الله تعالى هذا الكون العظيم في غاية الإبداع ودقة التنظيم، حيث تسير كل جزئية فيه وكل الدقائق والشعيرات وفق نظام دقيق مبدع، ولذلك استقامت السموات والأرض، وأصبحت معجزة كلما خاض فيها الإنسان العالم لم يسعه إلا الإيمان بالله تعالى خالقه ومبدعه. كل ذلك لأجل التنظيم، ولأجل الإبداع؛ ولذلك شجع الله تعالى وحث عباده المؤمنين، وأمر الذين أراد لهم التمكين في الأرض بالتنظيم ضمن منهج دقيق، يضعون الأمور في نصابها، ويضعون الكليات والجزئيات والكبائر والصغائر وكل شيء في موضعه ومكانه وزمانه دون تأخر. ولم تتقدم الأمم الشرقية منها والغربية بما تدخر تربتها في باطنها من ثروات ومعادن، وإنما تقدمت بعد أن نظمت حياتها،و حفظت مجتمعاتها من الفوضى، ولما أبدعت في التنظيم امتلك من وسائل الرفاهية ما يبهر، ومن استقرار المجتمع ما يصبو إليه كل مجتمع. إن الله تعالى أكرمنا بعقول نيرة، تسير وفق منهج دقيق منظم لصالح أنفسنا، ولننعم برغد الحياة وكرامة الآخرة، يتساوى في امتلاك هذه العقول كل البشر، غير أن الأمم الأوربية استخدمتها في إعمار دنياها فأبدعت في تنظيم حياتها وفق منهج دقيق منظم، ووضعت لها أهدافاً وغايات وسعت إلى تحقيقها أفراداً وجماعات، فنالت حظها في التقدم، وبقيت أمتنا على حالها، وتأخرت، وستظل في تأخر إذا لم تهب من رقدتها وتستنر بالعقل الذي جعله الله أداة تمييز للإنسان. أمتنا اليوم فيها بعض وسائل الرفاهية وفيها المال، ولكنها في جانب الإبداع والتصنيع في تأخر، بل هي في مؤخرة الأمم، والذي يشاهد حضارات الأمم من حوله لا يجد جواباً لسؤال يفرض نفسه، أين العرب والمسلمون في ركب الحضارة والتقدم؟ إن الأساس في الحياة والتقدم والحضارة هو التنظيم، وهو ما بينه الله تعالى في كتابه الكريم في كثير من آياته، وذلك من خلال القسم بكل الأوقات { والفجر، والضحى، والعصر، والليل }، ثم يتحدث القرآن الكريم عن التنظيم والإيداع، وكيف فضل الله تعالى حشرتين على بقية الحشرات بسبب عملها الدقيق المنتظم، إكراماً لهما، وهما النمل والنحل، إذ تعملان وفق منهج منتظم، ولما كانت النمل تعمل لصالح ذاتها ونفسها فضل الله تعالى عليها النحل؛ لأنها تعمل في انتظام وبدقة لصالح نفسها، ولصالح غيرها؛ إذ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وهو العسل، ولأنها تفوق على النمل تنظيماً أكرمها الله تعالى بالوحي إليها، وحياً يليق بها، { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً }. قيمة الإنسان بعد عقيدته وقيمه وأخلاقه بما يقدم من حياة منظمة، وبما يبدع في كافة المجالات التي تخدم الأمة، فكلما كان المرء منظماً كان نافعاً وقادراً على الإبداع وعلى تقديم الأنفع للعباد والبلاد. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ". فهناك سؤالان حول الزمن، حول عمر الإنسان، سؤال عن مرحلة الشباب؛ لأنها مرحلة الإبداع والتكوين، وسؤال عام عن عمر الإنسان كله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية تنظيم الوقت في حياة الإنسان. لا يخفى على أحد ما كانت تتخبط فيه الأمم الغربية من الفوضى والجهل والتخلف، وما كانت تنفقه في الخرافات و محاربة العلم، حتى ظهر فيها الرواد فأصلحوا النظام السياسي ونظام التعليم، ووضعوا برامج لإصلاح المجتمع من خلال تقديس الوقت والعمل والإبداع والتنظيم، فنهضت تلك الأمم، ووصلت إلى ما هي فيه اليوم من الإبداع في مجالات الحياة المختلفة، ثم شاركت الأمم الأخرى من حولها في هذه المجالات، وأصبحنا عالة عليهم في كل شيء؛ لأننا لم نحترم أوقاتنا، و لم ننظم منهج حياتنا، ودخلنا في فوضى وظننا أن كل شيء يمشي، وفهمنا التوكل على غير معناه، وكل شيء حسبناه من باب التوكل الذي أمرنا الله تعالى به، بينما هو في حقيقته من باب التواكل والتكاسل، لم نأخذ بأي سبب، ولم نضع أي خطة، كما كان يفعل قدوتنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يتخذ خطوة إلا بعد الأخذ بالأسباب ووضع الأهداف، ودراسة الأمر دراسة منهجية دقيقة. الوقت هو الحياة، وهو أغلى من كل كنوز الدنيا، وهو سيف مسلوك على رقابنا، إن لم نملأه بما يجدي كان بتاراً قاطعاً لرقابنا، وكان ضياعاً دون فائدة، وإذا أردنا أن نحترم ذواتنا فعلينا أن نحترم أوقاتنا وأوقات من نعول في كافة فئاتهم العمرية، ومراحلهم التعليمية، فقد ضاعت منا ومنهم أوقات كثيرة، ولكن إذا نظمنا الأوقات القادمة من حياتنا وأشغلناها بالمفيد تربى أولادنا ومن أناط الله مسؤوليتهم في أعناقنا على الإبداع والتكوين، واستطاعوا أن يغيروا مسيرة حياتهم وفق البرامج النافعة التي نضعها بين أيديهم، وينطلقون بفضل الله تعالى بعد ذلك من الضياع إلى الإبداع. إن إدارة الوقت من أهم أنواع الإدارات في عالم الإدارة، وهي تتكون من عدة أمور أساسية نذكر معالمها باختصار في النقاط الآتية: 1- أن نجلس مع أولادنا ونتفق معهم على تقسيم الوقت اليومي فالأسبوعي فالشهري فالسنوي إن أمكن، وأن نحدد لهم ساعات تنفيذ برامجهم التي تنمي فيهم الموهبة، وتفتح لهم آفاق الخيال والإبداع. 2- أن نبصرهم بفقه الأولى في الحياة، ونوضح لهم معالم التكوين، وأن نتدارس معهم أولويات الحياة، حتى يميزوا الأنفع في حياتهم، والأولى والأنفع . 3- أن نشغلهم بحوارات هادفة، ولو عن طريق اللهو والمرح، حتى تتسع دائرة معارفهم، وتتفتح مداركهم، فإن أكثر أولادنا يفتقدون خاصية الحوار، مع أن الأمة العربية هي أمة الكلام والفصاحة والبيان، ولوا أجريت حواراً مع أي طالب في وطننا العربي لرأيته يتسكع على طرقات الحوار، وينقطع به السبيل بعد دقائق معدودة، ولو أجريت حواراً مشابهاً مع طالب بريطاني مثلاً في نفس مرحلته الدراسية وفئته العمرية لشط به الحوار ساعات وساعات. إن عالمنا يسير نحو المجهول، وإن مستقبل أمتنا مظلم، لأننا فقدنا التنظيم والترتيب، لأننا لا نلقي بالاً بهذا الجانب الأساسي في الحياة. إن القرآن الكريم يتحدث في سورة الانشراح عن أهم أسباب انشراح صدر الإنسان، ويذكر أهمية التنظيم وتحديد الأهداف، يقول الله تعالى: { فإذا فرغت فانصب } فهذه الآية تتضمن مجموعتين من القضايا الأساسية للتخطيط والتنظيم: 1- لا بد أن يكون هدف المرء ـــــــ بعد الشروع في أي عمل كان، وبعد الأخذ بالأسباب، وبعد تحديد الأهداف ــــــ الفراغ منه والانتهاء من أدائه بدقة وإتقان. 2- لا بد أن يكون التخطيط للعمل التالي جاهزاً، سواء كان عملاً أخروياً أو دنيوياً، حتى يسير المرء عليه وفق منهج محكم منظم. ولا نملك بعد كل هذا إلا أن نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى تنظيم أوقاتنا وأوقات أولادنا حتى ينتقلوا من مرحلة الضياع إلى الإبداع، ومن الفوضى إلى التنظيم. الخطبة الثانية كل عباداتنا في غاية التنظيم، صلاتنا وحجنا، ولقد كان السلوك التنظيمي في إحدى الصلوات التي تبث مباشرة من الحرم المكي سبب إسلام أحد المتابعين، حيث امتلكته الدهشة حين رأى انتظام المصلين واتساقهم في صفوف متناسبة بمجرد أن قال الإمام { استووا } فقال إن عدداً كهذا يحتاج إلى الآلاف من المنظمين حتى يقفوا في هذا الترتيب والتنسيق، وقد جمعهم الإمام بكلمة واحدة، فما كان منه إلا أن أعلن إسلامه. لماذا تقف عباداتنا عند حد الأداء فقط، لا تتجاوز إلى غايات تحقق الطمأنينة والاستقامة، ولا تغدو تطبيقاً علمياً يسعى نورها في الناس؟. لقد حول الغالب منا عباداته إلى عادات لا تحمل من لذة العبادة معنى، ولا يدرك للعبادة أثراً لا على نفسه ولا على مجتمعه، ولا تنعكس آثار العبادات على سلوكه وقيمه، ولقد قال علماؤنا الأجلاء: "إن علامات قبول العمل أن تتغير حال المرء بعد الأداء إلى أفضل ما كانت عليه قبل أداء العبادة". إننا اليوم في أمس الحاجة إلى نحول عباداتنا إلى غايات وأهداف تنظم أوقاتنا، وتنظم حياتنا، وتنتقل بنا من حالة يرثى لها إلى حالة يشار إليها بالبنان.