أيها الاخوة المؤمنون، بين الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنه لولا فئة معينة من البشر لما كان سبحانه وتعالى يعبؤ بالبشرية كلها، ولولا هؤلاء لما كان للبشرية كلها عند الله وزن جناح بعوضة، بل أن الله سبحانه يربط بين الكون واستمراره وبقاءه بوجود هذه الفئة التي وصفها سبحانه وتعالى بسبعة عشر صفة، وأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما آذاه المشركون بكل صنوف الإيذاء فصبره الله بأنك اذا وفقت ونجحت في تحقيق وانجاز هذه الفئة، فقد فزت فوزا عظيما، وقد هانت كل هذه الصعوبات وهذه المشاكل والإيذائات .

فمن هم هؤلاء المميزين المعينين؟ فمن هم هؤلاء الذين تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل الإيذاء والمشاق من أجل تحقيق وجودهم؟

هؤلاء أيها الاخوة الأحبة، بينهم الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان، فهم عباد الرحمن، وسورة الفرقان هي سورة مكية ولما تقرؤها من البداية الى النهاية فقد احتوت لكل سبل الإيذاء وأشكالها للرسول صلى الله عليه وسلم، منها التشكيل في بشريته، والاستهزاء بفقره، ثم يطلب الله سبحانه وتعالى من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بأن يتوكل على الله، وان يصبر على أذاهم، وأن يتحمل كل ذلك للوصول الى تحقيق عباد الرحمن، ولذلك وبعد بيان كل صنوف الإيذاء والاستهزاء برسوله صلى الله عليه وسلم، ختم هذه السورة بالصبر وبالنجاح في تحقيق هذه المجموعة البشرية المعينة من المؤمنين الصادقين المخلصين المتميزين، يقول تعالى<< وما كان الله ليعبأ بكم لولا دعاؤكم >> أي لولا عبادتكم.

<< وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما>> البشرية كلها أيها الاخوة الأحبة، محتاجون الى هؤلاء، الى هذا الصنف المتميز من البشر، يحتاجون الى عباد الرحمن، يحتاجون الى منهجية عباد الرحمن، يحتاجون الى سلوكية عباد الرحمن في مجال العقائد، ومجال الانفس وراحة البال، في مجال المال والاعتدال، في مجال الاخلاق والممارسات الجنسية وغيرها من الأمور التي يصعب على البشرية أن تهدي فيها الى أقوم السبل دون الرجوع الى هذه الفئة المتميزة من البشر

وانظر الى البشرية اليوم وما تعيشه من انحراف شامل نتيجة لانعدام وجود هذه الفئة المتميزة من البشر، وذلك لتراجع دورالشهادة للامة الاسلامية تجاه بقية البشرية، نظرا لتخلف المسلمين مقارنة بغيرهم من بقية الشعوب، ولا يمكن بأي حال من الاحوال أن تصدر الرحمة من الضعيف الى من هو أقوى منه، فالسنن تقول عكس ذلك، فالأمة الضعيفة والامة المحتاجة لا يمكن أن ترحم غيرها بل على العكس فهي التي تحتاج الى ذلك، وفاقد الشيئ لا يعطيه، فمن هنا أيها الاخوة الاحبة، فالبشرية اليوم حينما تعبث ببعضها البعض فبالاخلاق والاموال والبيئة، ومن هنا تأتي أهمية عباد الرحمن للبشرية كلها، وهنا فالله يتحدث بعد كل ما ذكره في سورة الفرقان عن النماذج والقدوة ولم يتحدث عن النظريات والصورة والمثل، وهنا تبرز أهمية تمثل القيم الاسلامية من خلال أشخاص ونماذج بشرية وإلا فالقيم الاسلامية كنظريات كلها موجودة وعلى رأسها القرآن الكريم غض طري وكأنه اليوم نزل والسنة النبوية المطهرة موجودة بيننا إذاً أين الخلل؟ الخلل هو فيمن يتقمس هذه الصفات ويتمثل هذه القيم من المسلمين.

هذه هي القضية الاساسية التي نحن الآن في حاجة لاعادة النظر فيها الى أن تصبح هذه الامة جادة في تمثل هذه الصفات، والا فإذا كنا نحن لا نختلف عن الشرق والغرب في شيئ فلا يمكن أن يميزنا الله سبحانه وتعالى بشيئ، فالقضية أيها الاخوة الاحبة، هي قضية العمل فقد ألف أحد كبار علماء الهند الشيخ الندوي رحمه الله تعالى كتاب يحتاج كل منا أن يقرأه وهو بعنوان” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين “

أيها الاخوة الاحبة، عبارة جميلة” وعباد الرحمن ” فأول ما وصف الله به هؤلاء هو “عباد” أي خضوع هؤلاء البشر الى الله سبحانه وتعالى، وبداية الطريق الصحيح تبدأ بالعبودية أي الاستسلام لله والاخلاص لله أيضا، ولم يقل الله المصلون أو المزكون وهذه صفات قد تؤدى باخلاص أو بدونه، في حين العبودية هي خلوصية الانسان لله سبحانه وتعالى، وتسليم الانسان نفسه لله سبحانه وتعالى وهو معنى الاسلام بالمناسبة فالاسلام هو ان يسلم الانسان نفسه لله

والعبودية ايها الاخوة الاحبة تتحقق من خلال أمرين: الامر الاول الاخلاص لله سبحانه وتعالى أن يكون عملك مطابقا لما يريده الله تعالى فلا يجوز لنا ان نعبد الله حسب هوانا ولا يجوز لنا ان نعبد الله بغير ما أنزل الله اذا اخلاص وعبودية لله كما أراد وحتى الصفات التي ستأتي تباعا في وصف هؤلاء المتميزين هي لابد أن تكون خاضعة للعبودية الخالصة لله وحده

وكلمة”عباد” أيها الاخوة، بالرغم من أن الخطاب قد جاء في العهد المكي، ولم تكن للمسلمين بعد دولة، فقد جاء الوصف بصغة الجمع وهذا دليل على أن هذا المشروع لا يمكن أن يقوم عليه شخص واحد، فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولة نشر الاسلام بكل الوسائل وأهمية الجماعة

ثم بعد وصف العباد لم يقل سبحانه “وعباد الله” رغم أن اسم “الله” هو اسم الله الاعظم، ولم يقل كذلك، مع ان الموقف هو موقف القوة” وعباد الجبار” أو القهار أو العزيز إنما قال” وعباد الرحمن” وهذه العبارة تدل على أمرين اثنين، أيها الاخوة الاحبة، الأمر الاول: هو أن الجماعة والامة والمجتمع والدولة لا تبنى على القوة، ولا تبنى على القهر، وانما تبنى على الرحمة << لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم >> وكيف تؤلف؟ فقد بين القرآن ذلك << فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر>> هذه الرحمة،  وتستغفر لهم وكذلك تشاورهم وتحترمهم وتعطيهم كرامتهم هكذا تستطيع التأليف بينهم

فالرحمة ثلاثة أشياء وهي أن تحبهم ويحبونك، وتغفر لهم إذا أخطؤو، والثالثة أن تتشاور معهم لطعطيهم قيمة وتشعرهم بالمسؤولية