يربط الله سبحانه وتعالى في مواسم الحج هذه، الامة الاسلامية بتاريخ عميق وجذور مشرفة، تشرفنا جميعا على كافة المستويات، يربطنا بسيدنا ابراهيم الذي هو كان من اتباع سيدنا نوح، وسيدنا نوح كذلك كان من اولاد واتباع ادم عليهم السلام، فكأن الاسلام يربط هذه الامة الاسلامية بكل هؤلاء الانبياء بدءاً من سيدنا ادم الى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا السياق يربط الله سبحانه وتعالى أغلب المناسك الحج بسيدنا ابراهيم وعائلته المباركة، التي جعلها الله تعالى قدوة للعالمين جميعاً، بل جعل الله سبحانه وتعالى سيدنا ابراهيم قدوة حتى لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الله سبحانه وتعالى بعد أن تحدث عن سيدنا نوح وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من شيعته اي من اتباع سيدنا نوح، فهو امتداد روحاني ونسبي له، ويبين الله أن اسباب كل هذه المكارم وكل هذه الفضائل والخيرات والبركات التي منحها الله سبحانه وتعالى لسيدنا ابراهيم تعود الى شئ واحد أنه جاء ربه وهو صغير ثم يافعا وشابا وفي كل الاحوال بقلب سليم من الشرك والحقد ومن كل ما يؤذي الناس، وبقلب سليم بحيث يحب الناس جميعا ويحب الخير لهم.
وكما أكد ذلك رب العالمين فيقول (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) هناك يصف الله سبحانه وتعالى سيدنا ابراهيم بقلب سليم وهنا يعمم هذا الكلام بأن القضية تعودالى سلامة القلب، فإذا سلم القلب من الشرك والخرافات والحق والكراهية وامراض القلوب والنفوس فاولئك هم الذين يكونون من الفالحين والناجين في الدنا والاخرة.
هذا الربط بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا ابراهيم ونوح وادم عليهم السلام، يجعل هذا التاريخ الطويل في هذه الامة العظيمة فكأنهم يرددون قول القائل
اولئك ابائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير المجامع
لذلك نحن حتى في سورة الفاتحة حينما يتحدث الله سبحانه وتعالى عن الصراط المستقيم يتحدث عن هؤلاء الاباء والانبياء والمرسلين (إهدنا الصراط المستقيم) ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الصراط بالوصف وإنما ذكره من خلال الاشخاص ( الذين أنعمت عليهم).
ثم يأتي أحد الاعمال الجسام التي تنبع من هذا القلب السليم، وهو استعداد ابراهيم للتضحية بكل ما تعني هذه الكليمة لذبح ابنه، لانه رآه في المنام وقال بعدما نصح قومه ودعا الى الله (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ما دمتم يا قوم لا تسمعونني فإني ذاهب الى ربي لعل الله يرزقني بالصحف والوحي فازداد وحيا، لأن سيدنا ابراهيم قبل ان ينزل عليه الوحي كان مؤمناً فحينما كان صغيرا وقومه يعبدون النار رأى النجمة قال هذا ربي اذا كان للحجم والافضلية دور، ثم القمر ثم الشمس ومن ثم قال ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض ) فالذي خلق هذه الاشياء كلها هو الذي يستحق العبودية. فلما ترك ابراهيم قومه ذهب لتلقي المزيد من الرسالة، ودعا ربه بأن يرزقه الولد. وهنا اشارة جميلة جدا لنا ربط بين حركة الانسان للعبادة وبين الدعاء، فالدعاء انما يستجاب اذا كان الانسان في موقع العمل والعبادة، اما اذا كان في غير موقع العبادة فإنه قد لا يقبل ولذلك بشره الله سبحانه بغلام حليم، وهكذا جنود سيدنا داود حينما برزوا لجالوت قالوا (ربنا أفرغ علينا صبرا ).
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بعض العلماء يقولون ست سنوات والراجح هو 13 سنة، وهو في عنفوان الشباب والمراهقة، اتى به والده ابراهيم ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ) يستشيره ويختبره ابوه ويكون جواب الشاب اليافع وبمنتهى الرقة والمحبة (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فلا داعي للاستشارة او اخذ الاذن مادام الامر من الله.
والقصة اكتملت من خلال الاثار الصحيحة أن ابراهيم عليه السلام استشار السيدة هاجر التي تزوجها، وبعد زواجها مباشرة اتى بها الى واد غير ذي زرع، ولم يكن هناك احد، وقصتها مع ابنها اسماعيل معروفة وجعل الله سعيها بين الصفا والمروة من اجل الماء ركنا او منسكا من مناسك الاسلام تقديرا وذكرى لهذه المراة التي ضحت. وكان لأبراهيم زوجته الاولى ومعظم اوقاتها معها في الشام والخليل، فكانت لأي امرأة أخرى ان تقول يا ابراهيم: أنت ما تأتينا في السنة الا مرة أو مرتين فكيف الان جئت لتأخذ فلذة كبدي. ولكنها أي هاجر قالت (آالله أمرك بهذا ) .
فذهبوا وتبعهم الشيطان وجمرات العقبة ايضا ذكرى وتكريم لهذه القصة .
ثم يقول الله تعال (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي كاد أن يضع السكينة على عنقه (وَنَادَيْنَاهُ) بالواو الجمع اي انه لم يكن هناك فرصة فكاد ان يذبح ولكن الله ناداه من فوق سبع السموات أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)
هذه هي القصة التي هي قدوة لنا وحتى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم انه في اوامر الله سبحانه وتعالى لا نكون مترددين ابدا وانما نكون عازمين .
الخطبة الثانية
هذه القصة فيها ثلاث انواع من القدوة
القدوة الاولى للشيخ الكبير المتمثل بسيدنا ابراهيم، الذي رغم حب الانسان ولا سيما في هذا العمر للاولاد، اراد ان يضحي ويذبح ابنه في سبيل الله سبحانه وتعالى ، وايضا بالنسبة لاي شخص مهما كبرت سنه ومهما ازدادت وعظمت الاوامر والنواهي فأنها لن تصل الى حد أن يؤمر الانسان بذبح ابنه مع ذلك اراد ابراهيم ان يفعله تنفيذا لاوامر الله وفي ذلك قدوة لكبار السن بل للامة جميعا .
القدوة الثانية للشباب : والشباب يبدء من 13 الى تقريبا 40 سنة عند بعض العلماء، ففي هذه المرحلة قد يكون الانسان طموحا وهو في منتهى حيويته ومع ذلك حينما يأتي أمر الله يجب ان يكون الانسان بهذا المستوى من السمع والطاعة لله سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت يكون بهذا المستوى من الطاعة لوالده، ولا يجوز للولد ان يشك في الوالد او الوالدة بأنهما لا يريدان الا الخير للأبناء، وهذه المسألة يجب أن تترسخ في أذهان، وهي المشكلة بين الجيلين، الجيل الكبير المجرب والذي يريد توصيل هذه الخبرة للاولاد، ولكن الاولاد يرفضون بل يريدون ان يدخلوا في نفس المشاكل التي ربما وقع فيه الاب. اما اسماعيل فحتى في حالة الذبح يظن الخير بأبيه وان اباه يتمنى له الخير، ففي هذه الحالة تنسجم الامور ويقوم الاولاد بطاعة ابائهم لكل ما فيه خير لدينهم ودنياهم.
القدوة الثالثة هي للنساء والفتيان: ان الغيرة مهما كانت الكبيرة فلا يجوز ان يقف اممام اوامر الله سبحانه وتعالى فنحن المسلمين حينما نؤمر من قبل الله نقول (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا).
ومن باب التضحيات اليوم أن نضحي بجزء من أموالنا بالاضافة الى الاضحية لاخواننا المضطهدين أهل الشام الكرام، وكل سوريا أهل الكرم والعزة والكرامة، اليوم هؤلاء لا يجدون شيئاً فلا تكفي المعونات لهم لكثرة اعدادهم . هؤلاء ضحوا بأموالهم بل بأنفسهم واولادهم فلا يجوز لنا ديانة ولا شهامة أن نتركهم بل يجب علينا على أقل تقدير ان نضحي بجزء من اموالنا لتوصيلها لهم.
ولا يجوز لنا اليوم أن ننسى اخواننا المضطهدين في كل مكان فالمسلمون امة واحدة ولا ننسى ما يحدث في بورما فقد بدأ الحكومة مرة أخرى بسفك دماء المسلمين فلا ننساهم في دعائنا و خيراتنا.