قبل أن نخوض في غمار دلالة الفعل على الأحكام لا بد من التعريف بالفعل لغة واصطلاحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .

معنى الفعل لغة واصطلاحاً :

فالفعل ــ بكسر الفاء ــ لغة اسم مصدر من فعل يفعل فعلا ً بفتح الفاء ، قال الفيروزابادي :” هو حركة الإنسان ، أو كناية عن عمل مُتَعدِّ ” [1] وقال ابن منظور :” الفعل : كناية عن كل عمل متعد أو غير متعد ” [2]  .

وقد تكرر كثيراً في القرآن الكريم من قوله تعالى : (( فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف … )) [3] . قال ابن عطية : وقوله عز وجل : (( فيما فعلن )) يريد به التزوج فما دونه من التزين وإطراح الإحداد ” [4] . وقوله تعالى : (( ألم تر كيف فعل ربك بعاد )) [5] ، وقوله تعالى : (( أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم )) [6] وغير ذلك مما استعمل فيه الفعل بمعنى الفعل المادي ، ولكنه استعمل أيضاً في الفعل القلبي من ظن وعقيدة ، وعلم ، منه قوله تعالى : (( وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون )) [7] . قال ابن عباس :” أي وما يعبد أكثرهم آلهة إلا بالظن ، إن عبادتهم بالظن لا تغني من عذاب الله شيئاً ، إن الله عليم بما يفعلون في الشرك من عبادة الأوثان … ” [8] . وقوله تعالى : (( ولا تدع من دون الله ما لاينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين )) [9] ، قال ابن عباس :” لا تعبد … فإن فعلت ، أي عبدت ” [10] .

ولا يختلف الأمر كذلك في السنة حيث استعمل ” الفعل ” بمعانيه اللغوية ، وقد عقد البخاري باب : أن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى : (( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم )) [11] قال الكرماني :” والاعتقاد فعل القلب ” ، قال الحافظ ابن حجر :” والآية وإن وردت في الأيمان ــ بالفتح ــ فالاستدلال بها في الإيمان ــ بالكسر ــ واضح للاشتراك في المعنى ، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب ” [12] .

وقد سمّى النحويون ما يدل على العلم ، والظن ، والشك ، ونحوها بأفعال القلوب ، أي الأفعال الصادرة من القلب [13] .

ومن هنا فالمراد بفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو كل حدث صادر عنه سواء كان من الجوارح ، أو القلب ، أو حتى اللسان ، غير أن ما يصدر عن اللسان وإن كان حدثاً لكن اصطلح على تسميته بالقول ، أو الكلام ، واستقر العرف على ذلك ، ولكنه يدخل فيه الإشارة ، والهم بالشيء ونحوهما ، غير أنه لدى التحقيق نجد فروقاً جوهرية بين الإشارة ، والهم ــ مثلا ً ــ وبين الفعل المجرد الصريح في الدلالة على الأحكام لذلك نفرد لكل نوع مبحثاً خاصاً مستقلا ً ، كما أنه من الجدير بالتنبيه عليه أن ما يسمى في علم الصرف فعلا ً مثل ” مات ” لا يدخل في الفعل المصطلح عليه عند الأصوليين ، فقول الصحابي ” مات النبي صلى الله عليه وسلم ” لا يدخل في فعله ، لأنه في الواقع من فعل الله تعالى وإحداثه له ، ومن هنا فنحن هنا نريد بفعله صلى الله عليه وسلم فعله الصريح الصادر منه بعد البعثة والنبوة [14] .

معنى الدلالة وتطبيقاتها على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم :

الدلالة ــ بفتح الدال ــ لغة مصدر : دلَّ يدُلُّه ودَلالة ، وبكسر الدال اسم مصدر . وهي تعني الهداية والإرشاد ، ومنها الدليل وهو المرشد [15] .

وفي الاصطلاح هي : أن يكون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، فالشيء الأول يسمى دالا ً ، والثاني يسمى مدلولا ً .

والدلالة قد تكون لفظية ، وغير لفظية ، وكل واحدة منها إما عقلية كدلالة الأثر على المؤثر ، والنار على الحرارة ، أو بالعكس ، وإما طبيعية ــ أي طبع الإنسان ــ كدلالة السعال على المرض ، وإما وضعية أي تكون العلاقة وضع الناس وتعاهدهم على شيء سواء كان بوضع اللغة ، أو الاصطلاح [16] ، كدلالة الألفاظ على معانيها اللغوية عند أهل اللغة ، أو على معانيها الشرعية عند علماء الشرع وهكذا ، وكدلالة الإشارات الضوئية على معانيها المعهودة في عصرنا .

هذا وقد ذكر العلماء أنواع الدلالة الوضعية الثلاثة وهي : المطابقة بأن يدل اللفظ على معناه الموضوع له بالكامل مثل دلالة ” العشر ” على العدد المراد ، والتضمن ــ أي على جزء معناه ــ مثل دلالة ” العشرة ” على الخمسة والالتزام ــ أي على جزء معناه ــ مثل دلالة ” العشر ” على الزوجية [17] .

وقد ذكر الأصوليون عدة دلالات تدخل في الدلالة الالتزامية وهي :

  1. دلالــة الاقتضــاء ، وهي ما يقتضيه صدق الكلام مثل قوله تعالى(( واسأل القرية )) [18] أي أهلها ، أو صحته مثل قوله صلى الله عليه وسلم :” إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ” [19]  أي رفع عنهم الإثم ، أو الاعتداد بما يصدر عند هذه الحالات على خلاف بين الفقهاء .

  2. دلالة الإيماء وهي دلالة اللفظ على سبب الحكم كقوله تعالى (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهم مائة جلدة )) [20] حيث يدل على أن الجلد بسبب الزنا ، ولا سيما إذا صيغ الحكم في صورة المشتق فيدل على أن السبب هو مأخذ الاشتقاق .

  3. دلالة الإشارة وهي أن يدل اللفظ على معنى لا يدل عليه اللفظ أصالة ً ، ولا تبعاً ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام من أجله بحيث يفهم منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم :” أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم ” [21] فالحكم الثابت به وجوب أداء صدقة الفطر في يوم العيد إلى الفقير ، لكنه يفهم منه بدلالة الإشارة جواز دفع النقود لأنه اعتبر الإغناء وهذا يحصل بمطلق المال الشامل للطعام والنقود وغيرهما [22] .

  4. ودلالة مفهوم الموافقة بقسميه : فحوى الخطاب ، وهو أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق مثل قوله تعالى : (( ولا تقل لهما أف )) حيث يفهم منه حرمة ضربهما ، ولحن الخطاب بأن يكون مساوياً مثل قوله تعالى : (( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )) [23] حيث يفهم منه حرمة إحراقها أو إغراقها .

  5. دلالة مفهوم المخالفة بأن يكون حكم المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق مثل قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :” في كل إبل سائمة من كل أربعين ابنة لبون ” [24] وقوله :” وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة ” [25] . حيث يدلان بمفهومهما على أنه لا تجب الصدقة في الإبل والغنم غير السائمة .

والذي يعنينا هنا هو مدى انطباق هذه الدلالات على دلالة فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الأحكام ، فهل هي من الدلالات العقلية أم الطبيعية أم الوضعية ؟

لا شك أنه لا يدل عليها بالعقل المجرد ، ولا بالطبع ، وإنما بوضع الله تعالى وأمره بالاقتداء به ، إذن فتكون دلالة فعله عليها من باب الدلالة الوضعية ، فقد بين الشرع بأنه صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأنه يجب طاعته فقال : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )) [26] وأمر الله بطاعته فقال :(( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )) [27] ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم :” صلوا كما رأيتموني أصلي ” [28]  فيتبين من ذلك ــ ومن الأدلة الكثيرة ــ أن فعله حجة علينا في الجملة .

ثم إذا كانت دلالة فعله على الأحكام وضعية فهل تشتمل على جميع أنواعها ؟

للجواب عن ذلك يمكن أن تكون دلالة فعله مطابقة على الحكم الشرعي حينما يكون فعله بياناً لحكم شرعي أمر به ، ففعله للصلاة بعد ما أمر بأن نصلي مثل صلاته يكون بياناً مطابقاً لقوله [29]  وكذلك الأمر حينما يبين حكماً بالإشارة مثل إشارته بالأصابع إلى أن الشهر الواجب صومه قد يكون ثلاثين ، أو تسعاً وعشرين [30] .

وأما دلالة التضمن فلا تتأدى بالفعل [31]  وأما دلالة الالتزام فلها تطبيقات كثيرة على أفعال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث يلزم من صدور أي فعل منه عدم كونه مخالفاً لما أمر الله تعالى به أو نهى عنه ، وذلك لأنه معصوم من المعاصي ، وكذلك إذا عاقب أحداً يلزم منه أنه ارتكب جريمة يعاقب عليها فنعلم من ذلك كون الفعل الصادر من المعاقب معصية وحراماً يعاقب عليه [32] ، وكذلك ما رواه البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا بإناء من ماء فأتى بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيها ” [33] ، كما روي عن عبد الله بن زيد أنه أدخل يده في التَوْر ــ أي الطست ــ فاغترف بها فغسل وجهه ثلاث مرات ” [34] حيث يلزم من فعله هذا أن وضع اليد في الماء القليل والاغتراف منه لا يفقد الماء طهوريته ، ولا يصبح به الماء مستعملا ً .

وأما دلالة الإيماء في فعله فكدلالة سجوده عند تلاوة آية فيها ذكر السجود لله تعالى على أن تلاوتها سبب للسجود [35] والأمثلة في ذلك كثيرة .

ودلالة الإشارة في فعله ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرة منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي .. فقال :” ثم رأيت رسول الله صلّى عليها ــ أي على المنبر ــ وكبر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ، ثم عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس ، فقال :” أيها الناس ، إنما صنعت هذا لتأتموا ، ولتعلموا صلاتي ” [36] . ففعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا أراد به بيان هيئات الصلاة وتعليمهم الصلاة ، ولكنه فهم منه بدلالة الإشارة جواز عمل حركات غير كثيرة في الصلاة ، وجواز ارتفاع الإمام عن المأموم ، يقول الحافظ ابن حجر :” وفي الحديث دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة ، وكذا الكثير إن تفرق .. وكذا جواز ارتفاع الإمام ” [37] .

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن دلالة الاقتضــاء لا تتأتى في الأفعال فهي خاصة بالألفاظ [38] .

وأما مفهوم المخالفة من فعله فمثل ما استدل به أحمد على عدم جواز صلاة الجنازة بعد أكثر من شهر من الموت بأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على قبر أم سعد بعد شهر ” [39] ، فقد استدل أحمد وإسحاق [40] بهذا الحديث وغيره في عدم جوازها بعد شهر ، ولا يتم استدلالهم إلا عن طريق مفهوم المخالفة .

وأما دلالة الفحوى من مفهوم الموافقة في الفعل فكمثل دلالة جمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين صلاتين بالمدينة من غير خوف ولا سفر [41] ، على جـــواز الجمع

للخوف والسفر والمطر [42] بطريق أولى .

ودلالة اللحن منه مثل دلالة اتخاذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكان الصدع سلسلة من فضة لقدحه حينما انكسر [43] على جواز استعمال الفضة لإصلاح تصدع الأواني ونحوها [44] .

اعلى الصفحة

العصمة وعلاقاتها بدلالة فعله صلى الله عليه وسلم على الأحكام :

جرت عادة الأصوليين على أنهم يذكرون قبل الكـلام عن أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) موضوع عصمة الأنبياء ، للارتباط الوثيق بين المسألتين ، وذلك لأنه إذا لم تثبت العصمة فلا تكون أفعاله دالة على أحكام الشرع ، ولا يتصور التأسي ، ولا وجوب الاقتداء به ، وكذلك إذا ثبتت العصمة فلا يمكن صدور فعل المحرم عنه ، ولذلك نوجز القول في هذه المسألة إذ أن الخلاف فيها عريض ، والتفصيلات التي أثاروها جد كبير ، بل أفردها بالتأليف بعضهم منهم الإمام فخر الدين الرازي ( ت 606 ) [45] ، والذي نحب أن نثبته هنا هو أنهم اختلفوا في صدور الذنوب عن الأنبياء قبل النبوة وبعدها ، لكنهم أجمعوا على أنهم لا يقرون عليها مطلقاً ، حيث يبين لهم الله الحق ، أم يتذكرون فيتوبون إليه ، كما أنهم أجمعوا على عصمتهم في باب العقيدة ، وفي التبليغ حتى عن السهو والنسيان ، والغلط ، ومن الذنوب الكبائر ، ومن هنا فلا يقع خطأ في تبليغ الآيات وبيان الأحكام ، وإذا وقع خطأ في اجتهاداته ــ على القول باجتهاده ــ فإنه لا يقر عليه ، فقال تعالى : (( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين )) [46].

قال الزركشي :” ولا خلاف بين الأمة في وجوب عصمتهم ــ أي الأنبياء ــ عما يناقض مدلول المعجزة وهو الجهل بالله تعالى ، والكفر به ، وقد اتفقوا على استحالة الكذب والخطأ فيه ــ أي في التبليغ ــ وعلى عصمتهم في بيان الأحكام ولو في حال الغضب ، وعصمتهم في الكبائر ، ورذائل الأخلاق ” ثم ذكر الخلاف في مدى ورود الخطأ والنسيان منهم ، وانتهى إلى أن ” الشرط بالاتفاق أن لا يقر أحدهم عليه فيما طريقة البلاغ ” [47] .

ويقول إمام الحرمين :” لا شك أن المعجزة تدل على صدق النبي ( صلى الله عليه

وسلم ) فيما يبلغه عن الله تعالى فتجب عصمته عن الخُلف في مدلول المعجزة ، ولو

لم يكن كذلك لما كانت المعجزة دالة ، فأما الفواحش والموبقات والأفعال المعدودة من الكبائر فالذي ذهب إليه طبقات الخلق استحالة وقوعها عقلا ً من الأنبياء ” ثم ذكر بأن الصغائر التي يتضمن صدورها فسق من صدر عنه وانسلاله عن نعت العدالة فهي أيضاً ممتنعة في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) وأما النسيان فلا امتناع في تجويز وقوعه فيما لا يتعلق بالتكاليف [48] .

البيان بأفعاله صلى الله عليه وسلم :

فكما يقع بيان شرع الله تعالى بالأقوال فكذلك يقع بيانه بالفعل يقول علاء الدين السمرقندي :” فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينقسم إلى قسمين في الأصل : الأول : ما خرج بياناً لمجمل كتاب الله تعالى ، وحكمه حكم الكتاب من حيث الوجوب والندب ، والحرمة ، والكراهة ، ونحوها ، لأن البيان متى ألحق بالمجمل صار كأنه ورد مفسراً من الأصل . والثاني : ما ليس ببيان للكتاب ، أي يأتي بحكم جديد .

والبيان بالفعل يقع به جميع أنواع البيان يقول الشيرازي :” ويقع بالفعل جميع أنواع البيان من بيان المجمل ، وتخصيص العموم ، وتأويل الظاهر ، والنسخ ” [49] ، فمثال تخصيص العموم بالفعل ، صلاته بعد العصر مع وجود النهي عن الصلاة بعدها ، فيخصص بما عدا الصلاة ذات السبب من قضاء ونحوه ، ومثال تأويل الظاهر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن القود في الطرف قبل اندمال الجرح ، ثم استقاد لواحد قبل برء جرحه ، فيكــون هذا الفعل بياناً لهـذا النهي فيحمله على الكراهة مع أن الظاهر في النهي الحرمة ، ذلك عند بعض الفقهاء ، وجمهورهم على خلافه ” [50]  ، وضرب الشيرازي مثال النسخ برجمه صلى الله عليه وسلم ماعزاً دون جلده حيث اعتبر هذا الفعل نسخاً لحكم جلد الثيب بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ” الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ” [51] . وفي النسخ بالفعل نزاع كبير ، ولذلك ذهب البعض هنا إلى أن الناسخ هو قول النبي( صلى الله عليه وسلم ) في ماعز ” اذهبوا فارجموا ” حيث سكت عن الجلد في وقت الحاجة ، فيكون منسوخاً [52] . ونرى أن القول بالنسخ هنا فيه نظر .

فالبيان بالفعل جائز ووارد خلافاً لما ذهب إليه ابن فورك حيث اشترط في البيان بالفعل أن لا يكون هناك قول صالح [53]  قال أبو بكر الجصاص :” ما يستدل به حكم فعله عليه السلام : أن يرد فعله مورد بيان جملة تقتضي الإيجاب ، أو الندب أو الإباحة ، فيكون حكم فعله تابعاً لحكم الجملة فإن اقتضت الجملة الإيجاب كان فعله واجباً ، وإن اقتضت الندب كان فعله ندباً ، وكذلك إن اقتضت الإباحة كان فعله ذلك مباحاً [54] .

فمثال ما يكون الفعل بياناً للواجب : فعله لأعداد ركعات الصلاة المفروضة ، فهو بيان لقوله تعالى : (( أقيموا الصلاة )) [55] . وكذلك فعله لأفعال الحج ، وكذلك قيامـــه ( صلى الله عليه وسلم ) بأخذ حق من رجل لغيره ومن عقوبة رجل على فعل كان منه فهذا بيان للآيات الآمرة بأداء الحقوق ، فهذا على الوجوب أيضاً ، لأن ذلك لا يجوز فعله على وجه الإباحة ، ولا الندب ، لأن الدماء والأموال والأعراض محرمة إلا بحق ، أو عن طريق التراضي في التجارة قال تعالى : (( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )) [56] .

ومثال ما يكون فعله بياناً للندب قيامه بصلاة الليل والتهجد ــ عند من قال [57] بأنها نافلة عليه أيضاً ــ فهو بيان لقوله تعالى : (( ومن الليل فتهجد به نافلة لك )) [58] وكذلك قيامه بصدقة التطوع ، أو صلاة التطوع ونحوهما بياناً لقوله تعالى : (( وافعلوا الخير )) [59]

ونحوه .

ومثـال ما يكون فعله بياناً للمباح أكله وشربه فهو بيان لقوله تعالى : (( وكلوا واشربوا )) [60] .

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن فعله قد يكون بياناً للقرآن مثل ما ذكرنا ، وقد يكون بياناً للسنة القولية مثل قوله ( صلى الله عليه وسلم )  ” صلوا كما رأيتموني أصلي ” [61]  ثم بينه الرسول ( صلى الله عليه وسلم )  بأفعاله هيئة الصلاة وكيفيتها .

وأما كــون فعله بيانـــاً لمحرم فكإقامة النبي الحد ، أو العقــوبة على شخـص ارتكب منكراً حيث يدل على أن فعلـه محرم ولذلك عاقـبه النبي ( صلى الله عليه وسلم )  ففعـل النبي ( صلى الله عليه وســلم )  لا يمكن أن يكـــــون محــرماً ، للعصمة ــ لكنه يمكـن أن يكـــون بيانــاً ودليــلا ً على تحــريم فعــل آخــر قــال ابـن السمعــاني :” يحصل بالفعــل جميـع أنـــواع البيـــان ” ثم ذكـــر مثــالا ً لفعــله الــدال على أن قولــه الســابق للكــراهة ، ولــيس للتحــريم فقـــال :” كنهيــــه عن القــود في الطــرف قبـــل الاندمــال ، ثــم روى أنــه أقـــاد قــبل الاندمــال ، فيعــــلم أنــه أراد بالنهي الكراهة ” [62] .

وأما بيانه للإباحة فبفعله أحياناً ، وتركه أحياناً أخرى ــ وهذا بلا شك في الأمور العادية وليست الشعائرية ـــ مثل انصرافه عن شماله ، مع أنه بيّن بأن الحق على المسلم ألا ينصرف إلا عن يمينه [63] .

تعقيب :

ذكر الأصوليون القاعدة السابقة القاضية بأن ما خرج بياناً لمجمل كتاب الله فحكمه حكم الكتاب من حيث الوجوب … [64] فالذي يلاحظ عليها أنها ليست على إطلاقها ، فالأمر في ” أقيموا الصلاة ” للوجوب بالإجماع ، ولكن جميع أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) التي بينت الصلاة من التكبير إلى السلام بما فيها دعاء الاستفتاح ونحوه فليس جميعها واجباً ، بل فيها الواجب والمندوب ؟ للجواب عن ذلك نقول : إن الذي يظهر لنا رجحانه هو أن القاعدة على عمومها وإطلاقها ، ولكن الذي عرف منها أنه مندوب فهو بدليل خاص دل عليه .

ثم إن هيئة الفعل تدخل في مطلق البيان المقصود ، وأما الزمان والمكان ففي دخولهما في البيان محل خلاف ، فقال بعضهم إنما يدخلان حيث يتعلق بهما ، كما في الوقوف بعرفة ، والصلوات في أوقاتها ، وقال بعض آخر إن تكرر فعله في زمان واحد ، أو مكان واحد فيدل على اعتباره ، وإلا فلا ، وذهب الحنفية إلى أنهما لا يدخلان فيه مطلقاً ، فالبيان يحصل بفعله فقط دون ملاحظة الزمان والمكان ، إلا أن يكون هناك أمر مجمل في حق الزمان محتاجاً إلى البيان ، أو في حق المكان [65] كما في باب الصلاة فإنها مفروضة موقوتة لقوله تعالى : (( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً )) [66] . ومن هنا فعله ( صلى الله عليه وسلم ) في أوقاتها يدخل فيه اعتبار الوقت ، ويكون بمجموعه ــ بما فيه الزمان ــ بياناً لذلك الإجمال ، وأما فعله في باب الحج فبيان لقوله تعالى : (( ولله على الناس حج البيت )) [67] وذلك حاصل بالفعل لا بالوقت ، لأنه ليس فيه أمر مجمل لاختصاص عقد الإحرام بالحج ببعض الأوقات دون البعض ، وما كان ذلك إلا نظير مباشرة الطهارة بالماء في الوقت ، فإن ذلك كان بياناً منه لأصل الطهارة المأمور بها في الكتاب ، ولم يكن بياناً في التخصيص في الوقت حتى تجوز الطهارة بالماء قبل دخول الوقت بلا خلاف ، قال السرخسي :” وعلى هذا قلنا : إحرام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحج في أشهر الحج لا يكون بياناً في أن الإحرام تختص صحته بالوجود في أشهر الحج حتى يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وكذلك فعله ركعتي الطواف في مقام إبراهيم لا يكون بياناً أن ركعتي الطواف تختص بالأداء في ذلك المكان ” [68] .

هل الأصل في فعله بيان أم ابتداء ؟

اختلف في ذلك الأصوليون ، فذهب جماعة منهم الحنفية إلى أن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متى ورد موافقاً لما هو في القرآن يكون بياناً له ، وذهب آخرون إلى أنه يجعل بيان حكم مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه ، وترتب على ذلك عدة آثار منها : بيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للتيمم في حق الجنب هل هو بيان لما في القرآن ؟ وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى : (( أو لامستم النساء )) [69] الجماع دون المس باليد ، أما الشافعية فحملوه على حكم مبتدأ ، فعلى هذا يبقى معنى الآية في المس باليد فقط [70] .

LinkedInPin