أيها الإخوة المؤمنون

لا يوجد في عالم التربية والإنسانية شيء أفضل من قيام الإنسان بتربية أولاده تربية حسنة قوية تصنع الأجيال، وتجعلها عزيزة قوية قادرة على مواجهة التحديات، وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ"، بهذه التربية ينفع الولد العباد والبلاد، ويصبح قائداً في أمته، إماماً لأفرادها، ويكون قرة عين لوالديه، حين يفوزان بالجنة، كما علمنا الله تعالى أن يكون من دعائهم{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، ومعنى قرة أيعن، أي يسر الوالدان بالنظر إلى الولد وأفعاله وأخلاقه وخدماته التي يقدمها لأمته ودينه ووطنه، ويطيب خاطرهما وينشرح صدرهما لتلك الآثار الطيبة، وكم يموت الوالدان كمداً وحزناً وألماً حين تكون الولد على خلاف ذلك، وكم يتحسر الوالدان على جهودهم المبذولة ــ إن وجدت ــ، وتكون الحسرة شديدة إذا لم تكن هناك جهود بذلت أصلاً.

هذه التربية ليست سهلة، وإنما تحتاج إلى جهد ووقت وتعليم وسؤال، فمن لا يملك الوقت لقراءة كتب التربية، ولا يعرف القراءة، عليه أن يسأل أهل العلم في ذلك، ويتحرى القدوة الحسنة في السؤال، حتى يقدم لأولاده ما يسره أن يراه.

أهم شيء في هذه التربية القدوة الحسنة ــ الوالدان ــ داخل البيت، وكلما ضعفت القدوة أو انعدمت أو كن الوالدان بحاجة إلى القدوات كانت المسؤولية أعظم، وكانت المصيبة أكبر.

خطوات التربية

تبدأ التربية منذ اللحظة الأولى قبل الزواج بـــــ:

اختيار الزوج والزوجة، ويجب أن يكون الاختيار على أساس التقوى والخلق الحسن.

الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى عند ممارسة العلمية الجنسية، فيتعوذ الوالدان من الشيطان الرجين، ويدعوان بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ".

الالتزام بآداب الولادة، من تحنيك الولد، والأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى، وحلق شعره يوم سابعة، وحسن تسميته، وذبح العقيقة.

الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بحفظ الولد من كل سوء، وجعله قرة عين لوالديه، وقد سجل الله تعالى في القرآن الكريم معظم دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث كان قد صرف جُلّ دعائه لذريته، من ذلك قوله تعالى: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وقوله تعالى:{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}، وكذلك حين بشره الله تعالى بالنبوة والإمامة، طلبها لذريته، فقال تعالى:{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا محابة في النبوة والرسالة، وليست الإمامة وراثة، وإنما هي منح إلاهية يهبها لمن يستحقها، وليس الظالم ممن ينالها، سواء كان ظالماً لنفسه أو لغيره.

إذا بذل الوالدان الجهد بهذه الطريقة في تربية الولد، فإن الله تعالى لن يضيع أجرهما، أما إذا أهملا وقصرا لأي سبب كان فإن النتائج تكون وخيمة، فإنه من سنن الله تعالى الماضية أن من زرع حصد، ومن زرع شيئاً فلن يحصد سواه.

نماذج من التربية الصالحة

لقمان الحكيم

إنه رجل صالح وولي من أولياء الله وحكيم من الحكماء وهبه الله جلّ وعلا الحكمة لأنه كان صادقا مع الله في أقواله وأعماله جاداً في التقرب إلى الله تعالى، كان قليل الكلام كثير الفكرة والتدبر.

ولقد كانت وصية لقمان الحكيم لابنه موعظة رقيقة وكلمات متدفقة وألفاظ عذبة ووصايا سديدة جاءت بأسلوب الواعظ الناصح المشفق المربي، حيث بدأ بالتوحيد، والتنفير من الشرك، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فالعقيدة والمحافظة على التوحيد من أعظم المقاصد وأجل الغايات وهو الأساس الذي تنبى عليه التربية.

ومن جميل وصية لقمان لابنه ووعظه لفلذة كبده أن ربطه بالصلة بالله ومراقبة الله تعالى في السر والعلن وأخبر ابنه أن الله عز وجل أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، وأن الخطيئة مهما اجتهد المخطئ في إخفائها فإن الله يعلمها ويأتي بها وتكون حاضرة يوم القيامة، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.

ثم أمر لقمان ابنه بالصلاة والمحافظة على أركانها وواجباتها ودعوته لابنه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رجاء أن يفيد الآخرين وليكون له ذلك حصنا حصيناً من دعاة الشر ودعاة الرذيلة والباطل وأوصاه مع هذا كله بالصبر وملازمة الصبر على ما يناله من أذى وأخبره أن ذلك من عزم، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

ثم ختم وصاياه النافعة بوصية بليغة عظيمة، وذلك حين دعاه إلى التحلي بمكارم الأخلاق مع المجتمع وأفراده، وأمره بالابتعاد سفاسفها ورديئها، فقال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.

سيدنا يعقوب عليه السلام

إن القرآن الكريم أشاد بموقف لسيدنا يوسف عليه السلام يبرهن بوضوح حسن الأخلاق التي نهلها من معين أبيه، بيت النبوة والرسالة، وذلك حين هيأت امرأة عزيز مصر كل الأجواء، وأمنته من كل خوف، وطلبت منه ما طلبت، فما من سيدنا يوسف عليه السلام إلا أن قال على الفور، دون تلكؤ أو تردد، {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، فكان قدوة لكل الشباب في كل جيل، وأسوة حسنة لكل رعيل.

عبد الله بن الزبير، الطفل المبدع القوي، الذي واجه الظلم فيما بعد، دون خوف ولا وجل، مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم بغلمان يلعبون في بعض طرقات المدينة المنورة، يتفقد أحوالها بنفسه، فلما رأوه أسرعوا هاربين بعيداً، إلا عبد الله بن الزبير، وقف، ثم أفسح الطريق للخليفة فلما صار عمر بجانبه تقدم منه وحياه بلطف، ثم سأل: لماذا لم تهرب أيها الغلام الطيب مثلما هرب رفاقك؟ فقال بهدوء وأدب: لم أكن مذنباً يا أمير المؤمنين فأخافك على نفسي، وليست الطريق ضيقة فأوسعها لك احتراماً، أعجب عمر رضي الله عنه بكلامه، ومسح على رأسه، ودعا له.

هذه التربية هي التي تسمى بالتربية الهجومية، وليست الدفاعية، وعلماء النفس يقولون: من لا يُؤثر تأثر، فمن لم تكن تربيته مؤثرة في غيره، تأثر هو بالآخرين.

الأخلاق هي الأساس، ومن أجلها شرعت الأحكام والعبادات، وللأسف غدت عبادات معظمنا منزوع الجوهر، لا ثمرة لها، ولا نتيجة.

نحتاج إلى إعادة النظر في تربية أنفسنا، وتربية من نعول، حتى نسلم إذا وقفنا بين يدي الله تعالى وسألنا، فيكون عندنا جواب ينجينا من خزي يوم القيامة.

الخطبة الثانية

من أهم الوسائل المؤثرة في التربية القدوة، ثم المتابعة، ثم المراقبة، ثم المصاحبة، ثم بعد ذلك المناقشة، حيث يجلس المرء مع أولاده ويناقشهم في أفكارهم وآرائهم، ثم لربما كانت العقوبة، وهي ليست وسيلة مجدية بحد ذاتها، إلا في حالات نادرة.

عن لقمان عليه السلام استخدم مع ولده وسيلتين مؤثرتين من خلال المشاهدة، وذلك حين نهاه عن الكبر، وصف الكبر بمرض الصعار الذي يصيب الجمال، فتشمخ برأسها فترة ثم تخر ميتة، فأخذ ولده إلى ظراب بعض الجمال المصابة بالصعار، وقال له: هذه الجمال مصابة بالصعار، تأملها كيف رفعت رأسها وتكبرت، ثم انتظرا حتى سقط بعضها ميتاً، وكأنه قال له: إن الكبر مرض فإذا أصابك تكبر وترفعت عن العباد، ثم لا تلبث إلا أن تخر ميتاً.

وكذلك من خلال تنفيره من فظاظة الصوت، وقد شبه له الصوت المنكر بصوت حيوان يشاهده، فأخذ إلى إسطبل، ونام الولد من الإرهاق، ثم تجمع الحمير، ونهقت فهب الولد مذعوراً.

وإن هذا التشبيه هو من كلام سيدنا لقمان عليه السلام، وقد حكاه الله تعالى، وليس أن الله تعالى بشع الصوت ونفر منه.

نستطيع أن نجعل ما في أيدي أولادنا من الوسائل الحديثة وسائل مشاهدة في التربية الحسنة، كأن نعرض لهم أفلاماً عن سيرة الفاتحين والعلماء الربانيين، والعظماء والقادة، أو أفلاماً وثائقية تقبح في أعينهم الجرائم والفواحش، فينفروا منها ويبتعدوا عنها.

إن الإنسان إنسان بجماله وقيمه، فإذا فقد قيمه نزل عن مصاف الإنسان والتحق بفئة أخرى.

اللهم أصلح أحوالنا

الجمعة 13 / 7 / 2018