المقاصد ، جمع ” مقصد ” وهو لغة : مصدر ميمي مأخوذ من ” قصد ” ، وهو له عدة معان ، منها : العزم ، والتوجيه ، واستقامة الطريق ، والعدل ، والاعتدال[1] .
والمقاصد في الاصطلاح ، عرفت باعتبار المضاف إليه ، فمثلاً عرفت مقاصد الشريعة العامة بأنها : ” المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة “[2] أو أنها : ” الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد “[3] .
ونحن هنا نحاول تعريف المقاصد في الفكر الاسلامي ، بما يشمل مقاصد الشريعة ، ومقاصد خلق الكون ، أو الإنسان ، أو الملائكة ، أو الجنّ ، أو غير ذلك ، فعلى ضوء ذلك فالمقاصد هي المعاني والحكم والغايات التي أرادها الله في التشريع ، والخلق ، والتكوين .
التعريف بالإرادة والنية :
من المستحسن هنا التعريف بالإرادة والنية لعلاقتهما بالموضوع .
معنى الإرادة:
هي لغة مصدر أراد ، وأصله عن راد يرود روداً فيقال : راد فلان إذا سعى في طلب شيء[4] ، قال ثعلب : الإرادة تكون محبة وغير محبة ، وبمعنى القصد[5] ، وقال الفيومي : هي الطلب والاختيار[6] ، وقال الراغب الأصفهاني (ت502هـ) : ” الإرادة في الأصل قوة مركبة من شهوة ، وحاجة ، وأمل ، وجعل اسماً لنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل ، أو لا يفعل ، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوع النفس الى الشيء ، وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو أن لا يفعل فإذا استعمل في الله فإنه يراد به المنتهى ، وهو الحكم ، أو ما شابه ذلك “[7] ثم استشهد ببعض آيات من القرآن الكريم وذكر معانيها فقال : ” فمعنى قوله تعالى ( إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً )[8] أي إن حكم…. وقد تذكر الإرادة ويراد بها القصد مثل قوله تعالى: ( لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً)[9] أي لا يقصدونه ولا يطلبونه .. “[10] .
هذا وقد عرف علماء الكلام الإرادة بأنها : صفة تقتضي رجحان أحد المقدورين على الآخر[11] .
غير أن خلافاً وقع بينهم في أن الإرادة هل تقتضي وجود اعتقاد النفع أم لا ؟ فأجاب المعتزلة بنعم ، والأشاعرة بلا ، قال المعتزلة : أن نسبة القدرة الى طرفي الفعل على السوية ، فإذا حصل اعتقاد النفع ، أو ظنه في أحد طرفيه ترجح على الآخر عند القادر وتوجهت إليه قدرته ، وقال بعضهم : إن الإرادة ميل يعقب اعتقاد النفع ، أو ظنه ، لأن القادر كثيراً ما يعتقد النفع ، أو يظنه ولا يريده ما لم يحدث هذا الميل ، كما أن الكراهة نفرة تتبع اعتقاد الضرر ، أو ظنه ، فإنا نجد في أنفسنا ـ بعد اعتقاد : أن الفعل الفلاني ، فيه جلب نفع ، أو دفع ضر ـ ميلاً مترتباً على ذلك الاعتقاد[12] .
وأما الأشاعرة فقالوا : إنه لا تلازم بين الإرادة وبين اعتقاد النفع ، أو ميل يتبعه ، فضلاً من أن تكون نفسه فقد يرجح الإنسان أحد الأمرين المتساويين في جميع الوجوه بمجرد إرادته من غير توقف على طلب المرجع واعتقاد نفع في ذلك كالهارب من السبع إذا ظهر له طريقان متساويان في الوصول إلى النجاة ، فإنه يختار أحدهما بإرادته ، ولا يتوقف ذلك على ترجيح أحدهما لنفع يعتقده فيه ، ولا على ميل يتبعه[13] .
ثم إن بعض المتكلمين من الأشاعرة ذكروا أن إرادة الشيء تقتضي كراهية ضده وهذا ما ذهب إليه القاضي أبوبكر الباقلاني ، وحجة الإسلام الغزالي فذكرا أن إرادة الشيء تستلزم كراهية ضده المشعور به إذ لو لم يكن ضده مشعوراً مكروهاً بل مراداً لزم إرادة الضدين وهو محال[14] ، بل أكثر من ذلك ذهب الشيخ حسن الأشعري إلى أن إرادة الشيء هو كراهية ضده بعينها ، وذهب النجار من المعتزلة إلى أن الإرادة خلاف الإكراه ، فمعنى كونه مريداً أي عدم كونه مكرهاً[15] ، وقد رد عليهم الآمدي بقوله : ( ولا تفسر الإرادة بعدم الاكراه ، فمعنى كونه مريداً أي عدم كونه مكرهاً ، لأن كثيراً من الأشياء قد تنتفي عنه الكراهية ، والاكراه ، ومع ذلك لا موجب لكونه مريداً ، كما أن الإرادة قد تتحقق مع وجود الكراهية ، في حالة شرب الدواء المفيد مع كونه مراً )[16] فعلى هذا فالإرادة لا تقتضي الشهوة ، كما أن الكراهية لا تستلزم النفرة الطبيعية ، بل بينهما عموم وخصوص من وجه[17] .
وأما الإرادة في عرف الفقهاء فهي بمعنى القصد إلى الشيء والاتجاه إليه[18] ، قال التهانوي : وقد يراد بالإرادة مجرد القصد عرفاً ومن هذا القبيل إرادة المعنى من اللفظ[19] .
معنى النية :
النية ـ بكسر النون وتشديد الياء المفتوحة ، أو تخفيفها ـ في اللغة : القصد ، وعزم القلب ، قال الأزهري : مأخوذ من قولك : نويت بلدة كذا ـ أي عزمت بقلبي قصده ـ فالنية عزم القلب على عمل …. .[20] .
وأما في اصطلاح الأصوليين والفقهاء فقد ثار حول تعريفها جدل كثير ، فعرفها الغزالي في الوسيط[21] ، وعزالدين بن عبدالسلام[22] ، والنووي[23] ، وغيرهم[24] ، بأنها : القصد .
فعلى ضوء هذا يكون التعريف عاماً لكل قصد سواء كان قصد خير أو شر غير أنه اعترض عليه بأنه غير مانع ، لأن القصد أعم من النية حيث يتصور القصد ـ كما يقول السهيلي ـ من المكره على الطاعة ، والنية هي القصد إلى الامتثال ، وهذا لا يتصور مع الإكراه[25] .
وعرفها البيضاوي بأنها عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع ، أو دفع ضر حالاً أو مآلاً ، ثم قال : والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله ، وامتثال حكمه[26] ، وهذا التعريف اختاره السيوطي[27] وقد تبعه في ذلك التفتازاني فقال : النية : قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل .
وهذا ما اختاره ابن نجيم[28] ، وابن عابدين[29] ، وغيرهما[30] ، ويلاحظ على تعريف البيضاوي والتفتازاني بأنه ـ في نظرنا ـ غير جامع للإرادة المتوجهة نحو الترك لابتغاء مرضاة الله تعالى ولا شامل للإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء غير الله تعالى .
وقد أجاب ابن نجيم عن الاعتراض الأول بأن التروك كترك المنهي عنه ولا تحتاج إلى النية للخروج عن عهدة النهي ، وأما لحصول الثواب بأن كان كفاً ، وهو أن تدعو النفس إليه قادراً على فعله فكيف نفسه عنه خوفاً من الله تعالى ـ فهو مثاب[31] ، أي يكون حينئذ فعلاً فيشمل التعريف ، غير أنه يبقى الاعتراض الثاني قائماً ، ولا يمكن تأويله ، ولا إنكار أن القصد إلى فعل الشر ابتغاء مراضاة نفسه أو لأي مصلحة يبتغيها ، أو القصد إلى فعل وإن كان خيراً ، لكنه لا يريد به وجه الله تعالى يعتبر نية مع أن التعريف غير جامع له ، والدليل على كون ذلك من النيات قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )[32] فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النية من الهجرة شاملة لنية ابتغاء رضاء الله تعالى وابتغاء الحصول على الدنيا ، أو على المرأة .
والتحقيق ـ في نظرنا ـ أن النية ليست القصد إلى الفعل فحسب ، وإنما هي الباعث من القصد إلى الفعل ، فالمصلي حينما يصلي قد قصد فعل الصلاة ، لكن ما هو الباعث على أن يتجه قصده إلى هذا الفعل هل هو رضاء الله تعالى ، أم الريا ؟ هذه هي النية فقد ذكر الإمام الغزالي في فتاواه ، تحقيقاً رائعاً في هذا الموضوع ننقله لأهميته ، فقال : (أمر النية سهل في العبادات وإنما يتعسر بسبب الجهل بحقيقة النية أو الوسوسة فحقيقة النية القصد إلى الفعل وذلك مما يصير به الفعل اختياريا كالهوى إلى السجود فإنه يكون تارة بقصده وتارة يكون بسقوط الإنسان على وجهه بصدمة فهذا القصد يضاده الاضطرار والقصد الثاني كالعلة لهذا القصد وهو الانبعاث لإجابة الداعي كالقيام عند رؤية إنسان فإن قصدت احترامه فقد نويت تعظيمه وإن نويت الخروج إلى الطريق فقد نويت الخروج فالقصد إلى القيام لا ينبعث من النفس إلا إذا كان في القيام غرض فذلك الغرض هو المنوي والنية إذا أطلقت في الغالب أريد بها انبعاث للقصد موجها إلى ذلك الغرض فالغرض علة وقصد الفعل لا ينفك عند الخطر إذ اللسان لا يجري عليه كلام منظوم اضطرارا والفكر قد ينفك عن النية فهذا يفيدك أن النية عبارة عن إجابة الباعث المتحرك فهذا تحقيق نوعي القصد فالقصد الأول يستدعي علما فإن من لا يعلم القيام ولا التكبير لا يقصده والقصد الثاني أيضا يستدعي العلم بأن الغرض إنما يكون باعثا في حق من علم الغرض فيرجع إلى الثاني وهو النية وهي خاطرة واحدة ليس فيها تعدد حتى يعسر جمعها) [33] .
وعلى ضوء ما سبق عرف الزركشي النية بأنها : ( ربط القصد بمقصود معين)[34] أي ربط القصد إلى الفعل أو إلى الترك بغرض معين وهو أن يكون ابتغاء وجه الله تعالى أو ابتغاء غيره وقيده بكونه معيناً ، لأنه إذا لم يكن معلوماً ومعيناً لا تتعلق به النية قال الغزالي : ( ولكن شرط النية الإحاطة بصفات المقصود )[35] قال العز : ( النية قصد لا يتصور توجهه إلاّ إلى معلوم أو مظنون فلا تتعلق بمشكوك فيه وكذلك لا تتعلق بالموهوم ، ولا بدّ أن يكون جزمها مستنداً إلى علم أو اعتقاد ، أو ظن )[36] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة ” قصد ”
([2]) ابن عاشور : مقاصد الشريعة الإسلامية ، تحقيق محمد الطاهر الميساوي ط. دار النفائس الأردن 1421هـ ص 251
([3]) د. أحمد الريسوني : نظرية المقاصد عند الشاطبي ، ط. المعهد العالمي للفكر الاسلامي ص7
([4]) لسان العرب لابن منظور (20/1772) والقاموس المحيط (1/307) والمصباح المنير (1/362) وكشاف مصطلحات الفنون (3/32) والمفردات للراغب الأصفهاني ص 206 وذكر معنى آخر للرود وهو التردد في طلب الشيء برفق
([5]) لسان العرب (20/1772) والمصادر السابقة
([6]) المصباح المنير (1/362)
([7]) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 206-207
([8]) سورة الأحزاب / الآية 17
([9]) سورة القصص / الآية 83
([10]) المفردات في غريب القرآن ص 206-207 وراجع : روح المعاني للآلوسي (1/208) وكشاف مصطلحات الفنون (3/32)
([11]) راجع في تفصيل هذه المسألة : المواقف للقاضي عضد الدين الإيجي ، مع شرحه للسيد شريف مع حاشيتي السيالكوتي والحلبي (7/81) وما بعدها ، ومطالع الأنوار للأصفهاني ص 371 والطوالع للبيضاوي ص 371 وغاية المرام للآمدي ص 56 وكشف مصطلحات الفنون (3/32) والفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة مع شرحه للقارئ ص 19 والمغني في أبواب العدل والتوحيد للقاضي عبدالجبار المعتزلي (6/54-55) وشرح المقاصد للتفتازاني (1/174) والتعريفات للسيد شريف ص 11
([12]) شرح المواقف (7/81) ومطالع الأنوار ص 371 وشرح المقاصد (1/174) والمغني (6/00054)
([13]) المصادر السابقة
([14]) شرح المقاصد (1/174) وكشاف مصطلحات الفنون (3/33) والمصادر السابقة
([15]) شرح المواقف (7/82)
([16]) غاية المرام ص 56
([17]) كشاف مصطلحات الفنون (3/34)
([18]) انظر : البحر الرائق (2/322) وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب ط. المكتبة الاسلامية ، ديار بكر بتركيا (4/5) والمقنع ط. المطبعة السلفية (3/143) وراجع : الموسوعة الفقهية ، إصدار وزارة الأوقاف بالكويت مادة إرادة (3/5)
([19]) كشاف مصطلحات الفنون (3/33)
([20]) لسان العرب (51/4588) والقاموس المحيط (4/400) والمجموع للنووي (1/309)
([21]) الوسيط بتحقيقنا ، ط. دار الاعتصام 1983 (2/596)
([22]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/185)
([23]) المجموع (1/309)
([24]) وراجع : الأشباه لابن نجيم ص29 ، والفروق للقرافي (1/178) والقواعد لابن رجب ص 123 ، واعلام الموقعين لابن القيم (3/111) والأشباه والنظائر لابن السبكي ، مخطوطة الاسكندرية بمكتبة البلدية رقم 1181ب فقه شافعي ورقة 16
([25]) البحر المحيط للزركشي ، مخطوطة دار الكتب رقم 101 أصول تيمور ج1ورقة113
([26]) فتح الباري ط. السلفية (1/13)
([27]) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 33
([28]) الأشباه لابن نجيم ص 29
([29]) رد المحتار على الدر المختار (1/105)
([30]) نهاية الأحكام في بيان ما للنية من أحكام ط. بولاق 1930 ص 7
([31]) الأشباه لابن نجيم ص 29
([32]) الحديث متفق عليه رواه الجماعة بطرق كثيرة تربو على سبعين طريقاً ، يراجع : صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ (1/12) ومسلم (3/1515) وسنن أبي داود ـ مع عون المعبود ـ ( 6/284) والنسائي (1/51) وابن ماجه (2/1413) ويراجع : تلخيص الحبير (1/54)
([33]) إحياء علوم الدين للغزالي ط. عيسى الحلبي (4/353 – 355 ) والمنثور في القواعد للزركشي (3/284 – 285)
([34]) المنثور في القواعد (3/284)
([35]) الوسيط بتحقيقنا (2/596) وراجع القواعد للعز بن عبدالسلام (1/185)
([36]) قواعد الأحكام (1/185) وراجع القواعد لابن رجب ص 123