ترد أسئلة كثيرة من جميع فئات الأمة، ومن هذه الأسئلة سؤال يفرض نفسه على الواقع الاجتماعي، ما الذي أصاب الأمة حتى وصلت إلى مرحلة تكالب عليها الأعداء من كل جانب؟  وما الذي أوهن عزيمتها حتى أصبح بعض أفرادها ينفذ خطط أعدائها في بني جلدتها ودينها؟

حتى إنهم ليقولون إن الحرب اليوم هي حرب صفرية، ويقصدون بها أن الأعداء يحطموننا دون أن يخسروا شيئاً، ولكنني أقول إنها حرب ربحية، لأن الواقع المؤلم المشاهد أن الأعداء يحطموننا ولكنهم يربحون، فهم يحتلون ديارنا، وينهبون أموالنا وثرواتنا، ونحن ننفق عليهم أضعافاً مضاعفة، جراء ما يحدث في العالم الإسلامي.

أين الخلل في هذه الأمة؟

إن القرآن الكريم هو ذاته الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن السنة النبوية هي ذاتها التي شرعت للصحابة  نهج الحضارة، ورسمت لهم طريق السيادة والريادة، وإن الدين ثوابت لم تتغير منذ أن صدع به النبي صلى الله عليه وسلم هتافه الأول في بطحاء مكة إلى يومنا هذا، وذلك حين ربط أمور الدنيا بسنن الله تعالى التي لا يعتريها تغيير ولا تبديل، ومن أهم سنن الله تعالى في هذا المجال، هو أن الإصلاح لن يتحقق لهذه الأمة إلا بإصلاح ثلاثة أنظمة أساسية؛ النظام السياسي، والنظام التعليمي، والنظام الديني، وهذا ما تؤكده التجارب عبر عصور التاريخ، وقضية محاولات الإصلاح ولا سيما الإصلاح السياسي واردة وواقعة منذ فجر التاريخ الإنساني، من عهد أبينا آدم عليه السلام، حين غرر به الشيطان بأمرين أساسيين؛ الخلد والدوام، والمُلك والسياسة، { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ }[1]، وهناك فارق واضح بين المِلك والمُلك، إذ المِلك هي خاصة بامتلاك الأموال، والمُلك امتلاك السلطة والمال، ومن يملك السلطة حتماً سيملك الأموال، وبخاصة إذا لم يكن عادلاً.

فاستطاع الشيطان أن يدخل إلى قلب سيدنا آدم عليه السلام من خلال هذين المدخلين، ومن هنا جاءت التشريعات كلها، وبخاصة التشريع الإسلامي لعلاج هذين المدخلين الخطيرين؛ مدخل المحاولة للبقاء والخلد، من خلال التذكير بالموت و بالآخرة التي هي خير وأبقى، حتى جعل الإسلام الإيمان باليوم الآخر ركناً أساساً من أركان الإيمان الكامل، فيتذكر الإنسان أنه لا خلود في الحياة الدنيا، ولا خلود لإنسان مهما طال عمره { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ  أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[2]، والعلاج الثاني، لقضية المُلك والسياسة، وهي المشكلة التي أرقت فلاسفة الرومان واليونان، وأحسوا بخطورتها، وبحثوا عن حلول لها، ولكنهم لم يفلحوا في الوصول إلى حلها، وجاء الإسلام بحله الشامل لكل جوانب الحياة، ، ولكن هذا العلاج الشامل في جانب المُلك والسياسة، مع الأسف الشديد لم نقم برعايته حق الرعاية، فتغير الحكم بعد عهد الخلافة الراشدة التي دامت قرابة ثلاثين سنة، إلى مُلك عضود، ثم وصلت إلى مرحلة اليوم، مرحلة الاستبداد مع الضعف، وحينما يكون الحاكم مستبداً على شعبه، وفي نفس الوقت بذي مُلك عضود، أي المُلك القائم الذي يستطيع أن يحفظه من الضياع، حينئذ يستعين بأعداء الأمة على أبناء شعبه، وأفراد قومه، حتى يحافظ على سلطته، ويبقى في كرسيه.

إن المتصفح للتاريخ، وبخاصة تاريخ الأمم الأوروبية، ليقف على سر عظيم من أسرار نهضتها وتقدمها، إذ عاشت الأمم الأوروبية قروناً عديدة في ظلال الحروب الدينية، والحروب القومية، وعانت من ويلاتها الكثير والكثير، حتى بزغت في رباها إشعاعات الحضارة الإسلامية من خلال فتح الأندلس، فتوجهت إلى نظم الإصلاح التي حملها إليها الدين الإسلامي، وقامت بإصلاح النظام السياسي، والنظام التعليمي، والنظام الديني الذي كانت تقوده الكنيسة، وتمنعهم من العلم والتقدم، فبنوا بعد تلك الإصلاحات حضارة تبهر الضعفاء منا، وتأسر قلبه، وتذهب بعقله.

إن الله تعالى أعطانا الحل الشامل والكامل في هذا الدين الذي وصفه بقوله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[3] والذي جعل الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت لنفع الناس وهدايتها، بقيمها وأخلاقها، وليس بعرْقها ولا بقوميتها، وحمى لها فكرها وعقيدتها من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحيث تمنع هذه العقيدة الحاكم المسلم، والفرد المسلم من الظلم والاستبداد، وتصونهما عن غيرهما من آفات المجتمع.

إن العلاج الشامل لهذه الأمة يكمن في الحكم الرشيد، والحكم الرشيد هو الذي يكون فيه الحاكم متجهاً نحو إصلاح دنيا شعبه ويخدم أمته، ويسعى إلى تحقيق الغاية من الاستخلاف في الأرض، ويهدف إلى تحقيق رسالة الإنسان الذي أوجده الله تعالى على هذه الأرض؛ ليقوم بنوعين من أنواع التعمير؛ التعمير القلبي والجسدي، وتعمير الكون حسب سنن الله تعالى، وهذا هو الواجب الكبير، والمسؤولية العظيمة الملقاة على عاتق الحكام والمسؤولين وأهل الحكم والقرار.

إن الإنسان إذا لم يكن عليه رقيب داخلي ذاتي، أو رقيب خارجي ليطغى ويتجبر مهما كان شريفاً وطيباً، فإن الشيطان يزين له الباطل في قالب { الغاية تبرر الوسيلة }، حتى يورده موارد الهلاك والطغيان والتجبر، وهذا ما حصل ليوسف وإخوته، إذ عاشوا في بيت النبوة، ولكن الشيطان برر لهم فعلتهم، حين زخرف لهم القيام بأحد الأمرين؛ إما قتل يوسف، أو طرحه أرضاً يتيه فيها، ولا يعرف طريق العودة إلى أبيه؛ لغايةِ { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }[4]، فهذه المسألة واردة مع أي إنسان بيده السلطة، قد يُحدث فساداً مالياً أو إدارياً أو سياسياً أو اجتماعياً، وقد يغرر به من باب { الغاية تبرر الوسيلة } فلا يجوز أن يترك إنسان وحده مهما كان شريفاً، ما دام بيده القدرة والقوة، بل يجب أن يضبط بروادع دينية وقانونية تردعه إذا سولت له نفسه الإهمال والتفريط، ولا يتكل على وازعه الديني رغم أهميته وعظمته، وهذا ما عناه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول بيان سياسي ألقاه على الأمة، بعد أن انتخب خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال:" أيها الناس: إني قد وليت عليكم ولست أفضلكم، فإن رأيتموني على الحق فأعينوني، وإن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني"، فالرقابة الاجتماعية ضرورية لردع أي حاكم مستبد.

وإجابة على السؤال الذي يفرض نفسه على واقعنا الاجتماعي أقول: مصيبتنا في عدم وجود السياسة الرشيدة في معظم بلادنا، ولن تصلح حال الأمة إلا بإصلاح شامل للنظام السياسي والتعليمي والديني، ولسنا في شك أن نظامنا الديني هو نظام حياة، ونظام بقاء ونقاء، ونظام شفاء صالح لكل زمان ومكان، غير أن مشكلتنا في فقه ديننا، وكيف نفهمه؟ وننزل وقائعه وفق سنن الله تعالى، ومن سنن الله تعالى إصلاح أولي الأمر، ومن بيده الحل والعقد، وإرشادهم إلى أن يسيروا على المنهج الرشيد، وأن تكون عليهم رقابة شعبية، تقوم اعوجاجهم، فإن الله تعالى قد حفظ عقل الأمة مجتمعة من الضلال، فرأي الاثنين أفضل من الرأي الواحد، وناهيكم عن رأي الجماعة.

أملنا في الله تعالى كبير في أن يصلح حال هذه الأمة في نظمها الأساسية الثلاثة؛ السياسي والتعليمي والفقه الديني النابع من وسطية الإسلام، دون إفراط ولا تفريط.

 


[1] سورة طه، الآية 120

[2] سورة الأنبياء، الآية 34

[3] سورة المائدة، الآية 3

[4] سورة يوسف، الآية 9