المقصود بالاستبدال هنا تغيير العين الموقوفة بالبيع أو نحوه إلى شيء آخر ، والاستبدال على ثلاثة وجوه :

الأول : أن يشترطه الواقف لنفسه فقط أو لغيره فقط ، أو لهما معاً ، فحينئذٍ يكون الاستبدال جائزاً لمن شرط له على الصحيح .

الثاني : أن لا يشترطه وإنما يسكت عنه .

والثالث : أن يشترط عدم الاستبدال[1] ففي هذين الوجهين يأتي التفصيل والخلاف ، ولكنه من المتفق عليه أن الأصل العام والقاعدة الكلية في الشريعة هو عدم الاستبدال إلاّ لمسوغ مشروع ، ولذلك اختلف الفقهاء في جواز استبدال عين الوقف ـ من غير المسجد ـ أو بيعها في حالات نذكر هنا أهمها :           

1. حالة الهدم والخراب بحيث تتعذر عمارة الوقف : قال المرغيناني : ( وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه ، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته يصرفه فيهما ، لأنه لا بدّ من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف … وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرّمة صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل ) بل ادعى ابن الهمام أن خروج الوقف عن الانتفاع به ينبغي أن لا يختلف فيه[2]، أي في المذهب الحنفي ،

أما إذا انهدمت الدار ـ مثلاً ـ ولم يكن إعادتها فتباع ويشترى بثمنها مثلها ، أو قسط منه ما عدا المسجد[3]، وذهب أحمد إلى أن الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها إلى وقف آخر[4].

2. حالة عدم الانتفاع والاستغناء : قال ابن الهمام : ( ومن زيادات أبي بكر بن حامد : أجمع العلماء على جواز بيع بناء الوقف وحصيره إذا استغنوا عنه ) وقال أيضاً : (وينبغي للحاكم إّذا رفعه إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف )[5] وهذا رأي جمهور الفقهاء حيث قالوا : ويباع كلّ ما لا ينتفع به فيما حبس فيه من غير المسجد على تفصيل فيه  ومن غير العقار عند مالك حيث لا يباع وإن خرب[6] .      

3. حالة الهجر : وذلك بأن يترك أهل القرية ، أو المنطقة وقفهم فيهجر ، فعند الحنفية ـ في غير المسجد ـ يعود إلى الواقف ، وعند الجمهور يظلّ وقفاً ، وعند أحمد يباع نقضه ويصرف إلى مسجد آخر ، إن كان مسجداً أو إلى جهة مماثلة [7].

4. حالة رجاء منفعة أكبر : ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يجوز بيع الوقف إذا رأى الموقوف عليه ، أو الناظر للوقف أن غيره أكثر نفعاً وريعاً ، فقد جاء في فتح القدير (وروي عن محمد : إذا ضعفت الأرض عن الاستغلال ويجد القيم بثمنها أخرى أكثر ريعاً كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً )[8] ، ولكن بعض علماء الحنفية رجحوا عدم الجواز ، لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى ، لأنه لا موجب لتجويزه إذا لم يكن هناك شرط ، أو ضرورة ، ولا ضرورة في هذا ، إذ لا تجب الزيادة فيه بل تبقيه كما كان [9].

 وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية [10]، والشافعية [11]، والحنابلة [12]، وذلك لأن الأصل هو تحريم بيع الموقوف ، وإنما أبيح لضرورة أو حاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع تحقق الانتفاع وإن قلّ ، وبذلك يجمع بين الخيرين وهو أولى من التضحية بأحدهما لحساب الآخر ، لكن قال الحنابلة : إذا بلغ الوقف في قلة النفع إلى حدّ لا يعدّ نفعاً فيكون وجود ذلك كالعدم فيجوز بيعه وشراء مثيل له يكون أكثر نفعاً [13]. وهذا الرأي له وجاهته ووفاقه مع مقاصد الوقف في الشرع .

5. حالة الإتلاف : لو أتلف الموقوف عليه وعوض فيشتري ببدله مثله ويقوم مقامه [14]، وذهب المالكية إلى أن مَنْ هدم وقفاً تعدياً فعليه إعادته إلى ما كان عليه ولا تؤخذ قيمته حتى ولو كان المهدوم بالياً ، لأن الهادم ظالم بتعديه والظالم أحق بالحمل عليه ، أما إذا كان خطأ فعليه قيمته هذا ما رآه الخليل وغيره ، في حين ذهب الدردير وآخرون إلى أن عليه القيمة مطلقاً كسائر المتلفات ، وحينئذٍ تجعل تلك القيمة في عقار مثله يجعل وقفاً عوضاً عن المهدوم ،وتكون القيمة معتبرة باعتبار البناء قائماً لا مهدوماً [15]. 

6. حالة حاجة الوقف إلى التعمير أو الإنفاق وليس له مورد : إذا احتاج الوقف إلى التعمير وليس له مورد لذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى جواز بيع جزء من الوقف ليعمّر به بقية الوقف لأنه بدون ذلك يتعطل الوقف كله ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وأما الوقف العام[16] إن كان حيواناً ـ مثل الفرس للجهاد ـ يحتاج إلى نفقة فإن هذه النفقة إن لم يرتبها الواقف فعلى بيت المال ، فإن عدم ، أو لم يمكن الوصول إليه بيع وعوض ببدله سلاح ونحوه مما لا يحتاج إلى نفقة لأنه أقرب لغرض الواقف ، كما يباع عندما يصاب الفرس بداء الكلب[17] .

7. الخوف من الغلية عليه : ذهب جماعة من الفقهاء منهم طائفة من مشايخ الحنفية إلى أنه ( إذا خاف المتولي على الوقف من وارث ، أو سلطان يغلب عليه قال في النوازل يبيعها ويتصدق بثمنها قال : وكذا كلّ قيّم خاف شيئاّ من ذلك ) لكنه قال ابن الهمام : (فالفتوى على خلافه ، لأن الوقف بعدما صحّ بشرائطه لا يحتمل البيع ، وهذا هو الصحيح)[18]. والراجح أن على الناظر البحث عن أي وسيلة تحمي الوقف حتى ولو كانت عن طريق البيع الصوري .

8. بيع أشجار الوقف حفاظاً على زيادة الثمرة : جاء في الفتاوى الهندية : ( أما بيع أشجار الوقف فينظر إن كانت لا تنتقص ثمرة الكرم بظلها لا يجوز بيعها ، وإن كانت تنتقص ثمرة الكرم بظلها ينظر إن كانت ثمرة الشجر تـزيد على ثمرة الكرم ليس له أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت تنتقص عن ثمرة الكرم فله أن يبيعها ، وإن كانت أشجاراً غير مثمرة وتنتقص ثمرة الكرم بظلها فله أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت أشجار الدلب والحلان ونحوه مما إذا قطع ينبت ثانياً وثالثاً جاز قطعها وبيعها )[19] ، وهذا يدل على أن العبرة بما هو الأصلح للوقف .

9. حالة الاشتراط : وذلك بأن يشترط الواقف عند الوقف أن يكون له أو للقيّم حق الاستبدال بوقف آخر إذا شاء ذلك وكذلك لو اشترط أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضاً أخرى ، وهذا مذهب أبي يوسف وهلال والخصاف من الحنفية حيث يصح الوقف والشرط معاً ، وذهب محمد إلى أن الوقف صحيح والشرط باطل ، قال ابن الهمام : ( وليس له بعد استبداله مرة أن يستبدل ثانياً لانتهاء الشرط بمرة إلاّ أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائماً ، وكذا ليس للقيّم الاستبدال إلاّ أن ينص له بذلك … وفي فتاوى قاضيخان : ( قول هلال ، وأبي يوسف هو الصحيح ، لأن هذا شرط لا يبطل الوقف ، لأن الوقف الانتقال من أرض إلى أرض … وإذا كان حاصله إثبات وقف آخر لم يكن شرطاً فاسداً هو اشتراط عدم حكمه وهو التأبيد بل هو تأبيد معنى )[20] ، بل إن قاضيخان ذكر الإجماع على ذلك فقال : ( وأجمعوا على أن الوقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف ويملك الاستبدال ، أما بلا شرط أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلاّ بإذن القاضي )[21] .

وبمثل قول محمد قال جماعة من الفقهاء منهم الظاهرية ، لأنه شرط ليس في كتاب الله فيكون باطلاً في نظرهم[22] ، وبمثل قول أبي يوسف قال المالكية حيث أجازوا اشتراط بيع الوقف إن احتاج إليه الواقف ويعمل بشرطه[23] .

 

اسـتبدال المسـجد :

 يختص المسجد بعدة أحكام لا تتوافر في غيره ، فمثلاً عند أبي حنيفة لا يلزم الوقف في غير المسجد إلاّ بحكم الحاكم ، أو الايصاء به ، أما المسجد فيلزم بمجرد وقفه حيث لا يبقى له حق الرجوع عنه ، لذلك شدد الفقهاء في استبداله ، ونذكر هنا بعض نصوصهم ، قال المرغيناني الحنفي : ( ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف .. وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وراثه بعد موته ، لأنه عينه لقربة وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغنى عنه ، إلاّ أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش أنه ينقل إلى مسجد آخر )[24].

 وقد اتفق المالكية والشافعية مع رأي أبي يوسف في أن المسجد يظلّ مسجداً [25]فلا يجوز بيعه لظاهر النصوص الدالة على عدم جواز بيع الموقوف مثل قول عمر: ( فلا يباع أصلها ولا يوهب)[26] لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها ، ولكن يجوز نقل آلته وأنقاضه إلى مسجد آخر .

 وأما الحنابلة فيرون عدم التفرقة بين المسجد وغيره حيث يباع ويشترى بثمنه مكانٌ آخر ليكون مسجداً بدله ، ولأهمية رأيهم ووجود تفاصيل فيه أنقل ما جاء في المغني : ( ان الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت ، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها ، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه ، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعب جميعه فلم يمكن عمارته ، ولا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيته، وغن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ) ، وأضاف الحنابلة إلى ما سبق حالة الخوف من اللصوص في رواية صالح عن أحمد ، وكذلك إذا كان موضعه قذراً يمنع من الصلاة فيه[27] .

وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أحمد في هذه المسألة[28] تحقيقاً طيباً نذكره لأهميته بإيجاز مع التعليق عليه إن احتاج إلى ذلك حيث ذكر أن مذهب أحمد في غير المسجد أنه يجوز بيعه للحاجة ، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضاً للحاجة في أشهر الروايتين عنه ، وفي الأخرى : لا تباع عرصته ، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر .

فالمسجد الموجود ببلدة أو محلة إذا تعذر انتفاع أهلها بيع وبني بثمنه مسجد آخر في موضع آخر كما في زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد صُرِف إلى مسجد آخر ، بل يجوز عند أحمد صرفها في فقراء الجيران ، واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين ، لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد ، واحتج أيضاً لصرفها في نظير ذلك : بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جمع مالاً لمكاتب ، ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها في مكاتب آخر ، بأن المعطين أعطوا المال للكتابة ، فلما استغنى المعين صرفها في النظير .

والمقصود أن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم بيع الانتفاع به ، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة ، قال في رواية ابنه عبدالله : إذا خرب المسجد يباع ، وينفق ثمنه على مسجد آخر ، وإذا كان الوقف داراً فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل مكانها وقفاً [29].

وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان في مذهب أحمد ، واختلف أصحابه في ذلك ، لكن الجواز أظهر في نصوصه ، وأدلته ، منها ما ورد أنه لما قدم عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر ، واتخذ مسجداً عند أصحاب التمر ، قال فنقب بيت المال ، فأخذ الذي نقبه ، فكتب إلى عمر بذلك ، فكتب عمر : ( أن لا تقطع الرجل ، وانقل المسجد ، واجعل بيت المال قبلته ، فإنه لن يـزال في المسجد مصلي ، فنقله عبدالله فخطّ له هذه الخطة ) قال صالح : قال أبي : يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبدالله بن مسعود المسجد ، فوضع التمَّارين اليوم في موضع المسجد العتيق ، وصار سوق التمَّارين في موضعه [30].

قال صالح وسألت أبي عن رجل بنى مسجداً ، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر ، قال إن كان الذي بنى مسجداً يريد أن يحوله خوفاً من اللصوص ، أو يكون في موضع قذر فلا بأس أن يحوله ، وسئل أبو عبدالله : هل يحول المسجد ؟ قال إذا كان ضيقاً لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه .

 وقال عبدالله سألت أبي عن مسجد خرب : ترى أن تباع أرضه ، وينفق على مسجد آخر أحدثوه ؟ ، قال : ( إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأساً أن يباع وينفق على الآخر.

 وقال القاضي أبو يعلى : وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، وامتنع بعضهم عن ذلك ؟ قال : ينظر إلى قول أكثرهم ، ولا بأس به ، قال أبو يعلى : فظاهر هذا أنه أجاز أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود إلى المسجد [31]. 

 ثم ذكر أن بعض أصحاب المذهب حاول التكلف في حمل رواية أحمد هذه حالة الابتداء قبل بناء المسجد ، فقال : ( وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصّه ، فإنه نصّ صريح في المسجد المبني ، وليس في ابتداء بناء المسجد ، لأن الأخير لا نـزاع فيه ) [32].

 ثم ردّ ابن تيمية على من قال بعدم جواز النقل والإبدال إلاّ عند تعذر الانتفاع بأنه ليس لهم على ذلك حجة شرعية ، ولا مذهبية ، بل دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك ، وقد قال أحمد : ( إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه ، وضيقه بأهله لم يعطل نفعه ، بل نفعه باق كما كان ، ولكن الناس زادوا ، وقد أمكن أن يبنى لهم مسجد آخر ، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس ، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر ، لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين ، لأن الجمع كلما كان أكثر كان أفضل ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله تعالى ) [33].

 وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر ، وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة ، لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد ، فإنه لم يتعطل نفعها ، بل مازال باقياً ، وقد فعل عمر ذلك بمشهد الصحابة ولم يرد إلينا أنه اعترض عليه أحد ، بل نفذه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فكان ذلك إجماعاً ، لأن الصـــحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما كانوا يسكتون لو كان ذلك غير جائز ، والتأريخ شاهد على اعتراضاتهم على كلّ ما كان منكراً حتى ولو في نظر بعضهم ، فقد اعترضت المرأة على عمر حينما أراد تحديد المهر ، واعترضوا على عثمان لأنه كان يتم الصلاة في الحج .

 واحتج ابن تيمية أيضاً بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها : يا أم المؤمنين ! إن كسوة الكعبة قد يداول عليها ؟ فقالت : تباع ، ويجعل ثمنها في سبيل الخير ، فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف ، وصرف ثمنها في سبيل الخير ، لأن ذلك أصلح للمسلمين [34]. 

 وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن بيع الوقف والتعويض بثمنه يجوز إذا كان ذلك أصلح وأنفع دون الحاجة إلى تقيد الجواز بالضرورة ، أو تعطل الانتفاع بالكلية ، فالمسوغ للبيع والتعويض هو نقص المنفعة وذلك يتحقق بكون العوض أصلح وأنفع ، أو للحاجة التي يقصد بها هنا تكميل الانتفاع ، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة من مثل هذا مثلما أجيز لبس الحرير المحرم على الرجال لأجل الحكة [35] ( الحساسية ) .

 وقد استدل كذلك بما فعله عمر وعثمان من تغيير بناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ووجه الاستدلال بذلك أن اللبن والجذوع التي كانت وقفاً أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها ، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر ، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء ، وإبدال العرصة بعرصة ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، لهذا أبدل عمر مسجد الكوفة بمسجد آخر ، أبدل نفس العرصة ، وصارت العرصة الأولى سوقاً للتمّارين بعد أن كانت مسجداً ، وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة [36].

 ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوَّز إبدال المنذور بخير منه فقد روى أحمد وأبو داود والدارمي ، وابن الجارود ، وأبو يعلى ، والبيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رجلاً قام يوم الفتح ، فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، قال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذن )[37].

 وهناك أحاديث وآثار أخرى تدل على ذلك منها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن امرأة شكت شكوى ، فقالت : لو شفاني الله فلأخرجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس ، فبرأت ، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها ، وأخبرتها بذلك ، فقالت : اجلسي ، فكلي ما صنعت ، وصلِّي في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ مسجد الكعبة )[38] .   

 قال ابن تيمية : وهذا هو مذهب عامة العلماء … ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة ن ومع ذلك فإن الشارع بيّن أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا ، وكذلك الأمر بالنسبة للحيوانات التي تجب فيها الزكاة حيث تجزئ سنٌّ أعلى من الواجب في مذهب عامة أهل العلم ، فـثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز ، بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع ، وبإيجاب العبد[39]، والخلاصة أن الإبدال للحاجة ، أو المصلحة راجحة ، وبما هو خير من الأصل جائز تظافرت عليه الأدلة المعتبرة .

 

وقد استدل الحنابلة على ذلك بالآثار والمعقول :

 أما الآثار فمنها ( أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : انقل المسجد الذي بالتمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لا يـزال في المسجد مصلى )[40] ، قال ابن قدامة : ( وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً )[41] .

 ومنها ما رواه البيهقي والخلال عن علي بن أبي عبدالله المديني عن أبيه عن علقمة عن أمه قالت : ( دخل شيبة بن عثمان الحجي على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر فنعمد إلى آبار فنحفرها ، فنعمقها ، ثم تدفن ثياب الكعبة فيها كيلا يلبسها الجنب والحائض ، فقالت له عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما أحسنت ولبئس ما صنعت ، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها إن لبسها الجنب والحائض ، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله ، قالت فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن فتباع هناك ، ثم يجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله وابن السبيل )[42] .

 واستدلوا كذلك بأن مصلحة الواقف تقتضي أن تبقى آثار الوقف بأية صورة ممكنة ، حيث إن ذلك أحسن وأفضل من أن يترك الوقف مهملاً دون الاستفادة منه ، ولذلك قال ابن عقيل : (الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان ، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بموضع ، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره ، لأن مراعاته مع تعذره تقضي إلى فوات الانتفاع بالكلية وهكذا الوقف المعطل المنافع )[43].

 والراجح هو قول الحنابلة في المساجد وغيرها ، لأن الوقف وإن كان فيه الأجر والثواب لكنه معقول المعنى ، وليس من العبادات المحضة التي لا يبحث فيها عن العلل والمقاصد ، فمقاصد الشارع ، وكذلك مقاصد الواقف واضحة في أن يستمر الثواب والأجر إلى ما شاء الله ، ولذلك سمي بالصدقة الجارية ، ولذلك يجب الحفاظ على العين وعدم استبدالها ما دامت العين الموقوفة تحقق الغرض المنشود والقصد المطلوب ، وهو الانتفاع بها بالشكل المطلوب ، فإذا لم تعد قادرة على تحقيق ذلك الغرض بأن كان مسجداً للصلاة فترك منطقته أهلها ، أو كان فرساً للجهاد فكبرت فحينئذٍ فنحن أمام أحد الأمرين :

إمّا أن نـترك ذلك بحيث لم يعد المسجد ينتفع به ، وينتهي الفرس إلى الموت ، وحينئذٍ انقطع أجر الواقف .

وإمّا أن نـتدارك الموقف فنبيع المسجد ونشتري به مكاناً آخر ليتحول إلى مسجد ، وإن كان أصغر من الأول ، ونبيع الفرس ونشتري بثمنها فرساً أخرى أو حتى جزءاً منها أو أسلحة للجهاد ، فلا شك أن الاختيار الثاني هو الأفضل ، لأنه يؤدي إلى الانتفاع من السابق ، بل يؤدي إلى استمرارية الوقف وتأبيده من حيث الغرض والقصد والنتيجة ، ولذلك قال أبو بكر الخلال في ترجيح القول بجواز البيع ( لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس يعني الموقوفة على الغزو إذا كبرت فلم تصلح للغزو ، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر مثل أن تدور في الرحا ، أو تكون الرغبة في نتاجها ، أو حصاناً يتخذ للطراق فإنه يجوز بيعها ويشتري بثمنها ما يصلح للغزو )[44] .

وقال ابن قدامة : ( لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها من الضياع ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بهذه الطرق )[45] .

  

حالة عدم الانتفاع بالمسجد :

 هناك حالات لا ينتفع فيها بالمسجد مثل مسجد بني ، ثم انهدم من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه فإنه لا يباع ، وإنما يعان به مسجد آخر ، هكذا نصّ عليه أحمد وهكذا الحكم عندما يفضل من حصر المسجد وزيته ولا يحتاج إليه فيجوز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم ، وكذلك ان فضل من قصبه أو شيء من نقضه ، قال المروزي : ( سألت أبا عبدالله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء ،أو الخشبة ، قال : يتصدق به ، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا انخرقت تصدق بها ، وقال في موضع آخر قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة )[46]. ، ولكن إذا لم تتحقق المنفعة بهذا التحويل فيجوز البيع وصرف ثمنه في خدمة المساجد .

 

عدم بيع العقار الموقوف عند مالك :

 لا يجوز بيع العقار المحبوس عند مالك وإن خرب ونقص ، ولو بيع بعقار آخر صالح إلاّ لتوسيع مسجد جامع ، أو الطريق ، أو المقبرة ، حيث قال في المدونة : ( ولا يباع العقار الحبس ولو خرب ، وبقاء أحباس السلف دائرة دليل على منع ذلك ) ، قال الدسوقي : ( ورد المصنف بالمبالغة بقوله ” وإن خرب ” على رواية أبي الفرج عن مالك : إن رأى الإمام بيع ذلك لمصلحة جاز ويجعل ثمنه في مثله وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً )[47] ، بل هو مذهب الحنابلة كما سبق .

 وقد علق الدردير على ذلك : ( وهذا في الوقف الصحيح ، وأما الباطل كالمساجد والتكايا التي بناها الملوك والأمراء بقرافة مصر ، ونبشوا مقابر المسلمين ، وضيقوا عليهم فهذه يجب هدمها قطعاً ونقضها … وتباع لمصالح المسلمين أو يبنى بها مساجد في محل جائز ، أو قنطرة لنفع العامة ، ولا تكون لوارثهم ان علم ، إذ هم لا يملكون منها شيئاً ، وأين لهم ملكها وهم السمّاعون للكذب الأكّالون للسحت يكون الواحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه ، فإذا استولى بظلمه على المسلمين سلبهم أموالهم وصرفها فيما يغضب الله ورسوله … وأما أوقافهم بوسط البلد فهي نافذة لأنها من مصالح المسلمين )[48] . 

 

LinkedInPin