التعريف بالاستثمار في اللغة والاصطلاح :

الاستثمار في اللغة :

الاستثمار لغة : مصدر استثمر يستثمر وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار ، وأصله من الثمر وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه ، ومنها الولد حيث قال : الولد ثمرة القلب ، ومنها أنواع المال .

ويقال : ثَمر ـ بفتح الميم ـ الشجر ثموراً أي أظهر ثمره ، وثمر الشيء أي نضج وكمل ، ويقال : ثمر ماله أي كثر ، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار ، وأثمر الشيء أي أتى نتيجته ، وأثمر ماله ـ بضم اللام ـ أي كثر ، وأثمر القوم : أطعمهم الثمر ، ويقال : استثمر المال وثمّره ـ بتشديد الميم ـ أي استخدمه في الإنتاج ، وأما الثمرة فهي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر ، وإلى الشيء فيراد بها فائدته ، وإلى القلب فيراد بها مودته وجمع الثمرة : ثَمَر ـ بفتح الثاء والميم ـ وثُمر ـ بضمهما ـ ثمار وأثمار[1].

وقد وردت كلمة : أثمر ، وثمرة ، وثمرات ، أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى : ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون )[2] ، أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات ، ونضجها للوصول إلى الإيمان الكامل بالله تعالى حيث يحمل ذلك عجائب قدرته ، ومنه قوله تعالى : ( وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنّخل والزرع مختلفاً أُكُلُهُ والزيتون متشابهاً وغير متشابه كُلُوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )[3] ، حيث امتن الله تعالى علينا بالثمار وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تـثمر وتنـتج ، وأن نعطي حقها ( وهو الزكاة ) عند حصادها للمستحقين ، كما أمرنا بأن لا نسرف في الباقي وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقاً مطلقاً ، بل مقيد بضوابط الشرع . وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله تعالى الإثمار إلى الشجر والنبات نفسيهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال : ( وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )[4]، وقوله تعالى : ( ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات )[5].

ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق ( في الغالب ) الثمر أو الثمرة ، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله تعالى : ( ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات )[6] ، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلاّ إذا عَمَّمْنا المراد بقوله تعالى : ( أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً يُجبى إليه  ثمرات كل شيء )[7] .

وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات ، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( نهى عن بيع الثمر حتى يزهو )[8] ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض )[9] ، وغير ذلك .

 

الاستثمار قي الاصطلاح :

ورد لفظ ” التثمير ” في عر ف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد فقالوا : الرشيد هو القادر على تثمير أمواله وإصلاحه ، والسفيه هو غير ذلك ، قال الإمام مالك : (الرشد : تـثمير المال ، وإصلاحه فقط )[10] ، وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم[11] . وأما لفظ الاستثمار فلم يرد في كتب اللغة بمعناه الاقتصادي ، ولذلك في معجم الوسيط :الاستثمار :استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات ، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ثم وضع رمز(مج)الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة[12] .

 

حكم الاستـثمار :

الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستـثمار مباح ومشروع بأصله على مستوى الفرد بل نستطيع القول بأنه ترد عليه الأحكام التكليفية من حيث عوارضه ووسائله لكنه ـ من حيث المبدأ ـ واجب كفائي على الأمة في مجموعهم ، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار .

ذلك لأن النصوص الشرعية متظافرة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة ، وتقديم المال على النفس في جميع الآيات التي ذكر فيها الجهاد والأموال والأنفس إلاّ في آية واحدة في سورة التوبة ، الآية الحادية عشرة بعد المائة ، حيث قدمت الأنفس ، لأنها تتحدث عن الشراء ، وامتنان الله تعالى بالمال ، والمساواة بين المجاهدين ، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل ، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة … كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والنهضة والحضارة ، حيث إن ذلك لا يتحقق إلاّ بالمال كما يقول تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها )[13] .

فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي ، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلاّ به ولا يتحرك ولا ينهض إلاّ به ، كما أن قوله تعالى : (وارزقوهم فيها ) ولم يقل (منها) يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم ( من الأطفال والمجانين ) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه .

يقول الإمام الرازي : ( اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال) ، قال تعالى : ( ولا تبذّر تبذيرا إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين )[14] ، وقال تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنُقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً )[15] ، وقال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا )[16] ، وقد رغب الله تعالى في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن ، والعقل يؤيد ذلك ، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلاّ بواسطة المال ، ثم قال : وإنما قال (فيها) ولم يقل ( منها ) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال .. )[17] .

ومن الأدلة المعتبرة على ذلك أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة ، لأنهم إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة ، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها ، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار ( اليتامى وغيرهم ) والمحجور عليهم ( السفهاء والمجانين وناقصي الأهلية ) فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( ابتغوا في مال اليتيم ـ أو في أموال اليتامى ـ لا تذهبها ـ لا تستهلكها ـ الصدقة ) وقد قال البيهقي والنووي : ( إسناده صحيح ، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صحّ عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم )[18] .

قال البيهقي : ( وهذا ـ أي حديث ابن ماهك ـ مرسل إلاّ أن الشافعي ـ رحمه الله ـ أكده بالاستبدال بالخبر الأول ـ وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً ـ وبما روى عن الصحابة في ذلك)[19]. وقال النووي : ( ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً عليه بلفظ : (وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ) وقال إسناده صحيح ، ورواه أيضاً علي بن مطرف)[20].

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : ( إن إسناده صحيح )[21] .

يقول الشيخ القرضاوي:(إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة ..) فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها ، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند ، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور،وذكر منها:(أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنـز)[22] .

وكذلك يدل على تثمير الأموال قوله تعالى :(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)[23] ، حيث إن الأموال لا تتداول إلاّ عن طريق توزيع الصدقات ، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصنّاع والتجّار ونحوهم ، وكذلك قوله تعالى : (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة)[24]،ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس،فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشدُّ طلباً ووجوباً .

ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال،وذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق استثمارها وتنميتها،كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)[25]،فقال المفسرون:(معناه أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار)[26]،وكذلك من مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلاّ عن طريق الاستثمار .

 

والخلاصة :

أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي على الأمة بأن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تـتكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حدّ الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى ، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب .

ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي،فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد… أنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه،أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما،وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع .

كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادها ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية،وأن ملكية الدولة محدودة،ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار،يقول الشيخ محمود شلتوت:(إذا كان من قضايا العقل والدين أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب،وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجه الإسلام على أهله،وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة،كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً… )[27] .

 

الوقف والاستثمار :

الوقف نفسه استثمار ، لأن الاستثمار ـ كما سبق ـ يراد به إضافة أرباح إلى رأس المال لتكون المصاريف من الربح فقط ، فيبقى رأس المال محفوظاً بل مضافاً إليه الربح الباقي ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه .

وكذلك الوقف حيث هو خاص بالأموال التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها ، ولذلك فالأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاكها ـ مثل الطعام ـ لا يجوز وقفها[28].

فعلى ضوء ذلك فإن الوقف في حقيقته استثمار من حيث إن صاحبه يريد أن يقف ماله في سبيل أن يحصد ناتجه يوم القيامة ، ومن حيث الحفاظ على الأصل ، ويكون الاستهلاك للناتج والثمرة والربح والريع ، فالأعيان الموقوفة إمّا تنـتج منها الثمار كما هو الحال في وقف الأشجار والبساتين المثمرة ، أو تنـتج منها منفعة وأجرة كما هو الحال بالنسبة للأعيان المستأجرة ، أو ينـتج منها ربح وريع كما هو الحال بالنسبة لوقف النقود .

وقد جاء في فتح القدير عند تعليقه على ورود كتاب الوقف بعد الشركة : ( مناسبته بالشركة أن كلاً منهما يراد لاستبقاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة عليه )[29] .

 

استثمار موارد الوقف وطرقه :

لا شك أن استثمار أموال الوقف يؤدي إلى الحفاظ على أموال الوقف حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف ، ويساهم في تحقيق أهداف الوقف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ، والتنموية ، فما اكثر مصائب هذه الأمة في هذا العصر ، وما أكثر حاجياتها إلى الأموال لتحسين أحوالها الاجتماعية المتخلفة من خلال استثمار الأموال عن طريق التسويق والتصنيع والإنتاج .

إضافة إلى ذلك فإن الوقف الذي يراد له الاستمرار ، ومن مقاصده التأبيد لا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ من خلال الاستثمارات الناجحة ، وإلاّ فالمصاريف والنفقات والصيانة قد تقضي على أصل الوقف إن لم تعالج عن طريق الاستثمار المجدي النافع ، لذلك ينبغي أن تهتم إدارة الوقف ( أو الناظر ) بهذا الجانب اهتماماً كبيراً وتخصص جزءاً جيداً من ريع الوقف للاستثمار إضافة إلى استثمار بقية أموالها السائلة .

 

ونحن في هذا البحث نذكر أهم الطرق القديمة للاستثمار مع الطرق المعاصرة بقدر الإمكان وهي :

الطريقة الأُولى ـ الإجارة : وقد ذكر الفقهاء عدة أنواع من الإجارة في باب الوقف :

1. الإجارة :

وهي كانت أهمها وأكثرها شيوعاً ، بل كاد الفقهاء  أن يربطوا بينها وبين جواز بعض أنواع الوقف ، فقد علل الفقهاء الذين منعوا وقف الدراهم والدنانير بأنه لا يجوز إجارتهما ، ولا يمكن الانتفاع بهما إلاّ بالإتلاف ، وعلل الذين أجازوا وقفهما بأنه يجوز إجارتهما ، قال ابن قدامة : ( وما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم … لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم … وقيل : في الدراهم والدنانير يصح وقفه على قول من أجاز إجارته ، وأما الحليّ فيصح وقفه للبس والعارية…. )[30].

ولذلك لمّا أفتى محمد بن عبدالله الأنصاري ( صاحب زفر ) بجواز وقف الدراهم والدنانير والمكيل والموزون استغرب الفقهاء فسألوه : ماذا يفعل بوقف هذه الأشياء والوقف تحبيس الأصل والانتفاع بالمنفعة ، فأين منفعتها ؟ فقال : تدفعون الدراهم والدنانير للمضاربة ثم تتصدقون بربحهما ، وتتصدقون بالربح[31] ، وذكر بعض الفقهاء أن منفعة الدراهم والدنانير في الوقف هي أن تقرض للفقراء ، ثم تقضي منهم ، ثم تدفع لآخرين[32] .

وإجارة الموقوف والانتفاع بإجارته محل اتفاق بين الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا في بعض التفاصيل من حيث مدة الإجارة وأجر المثل .

أ.مدة الإجارة :

يرى الحنفية أن تكون مدة الإجارة من الوقف لا تزيد عن سنة في الدار ، وثلاث سنوات في الأرض الزراعية وأن الفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة من حيث الزمن وذلك لإمكان أن يتضرر الوقف بطول الزمن ، بل قد يؤدي إلى إبطال الوقف ، إلاّ إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرته سنين مقبلة وحينئذٍ يجب أن تكون في عقود مترادفة متكررة كلّ سنة ، جاء في الفتاوى الهندية : ( إذا أجر الواقف أكثر من سنة لا يجوز ، وإن لم يشترط فالمختار أن يقضي بالجواز في الضياع في ثلاث سنين إلاّ إذا كانت المصلحة في عدم الجواز ، وفي غير الضياع يقضي بعدم الجواز إذا زاد على السنة الواحدة إلاّ إذا كانت المصلحة في الجواز ، وهذا شيء يختلف باختلاف المواضع والزمان كذا في السراجية وهو المختار للفتوى )[33] .

هذا إذا لم يكن الواقف قد اشترط مدة محددة فإن كان قد اشترط أن لا يؤجرها المتولي أكثر من سنة فيجب الالتـزام بهذا الشرط ولا يجوز مخالفته إلاّ بحكم القاضي ، لكن قاضيخان أفتى بجواز مخالفة هذا الشرط إذا كانت أنفع للفقراء والمستحقين ، ولا يحتاج إلى المرافعة إلى القاضي[34] .

ويتفق المالكية مع الحنفية في وجوب النظر إلى ما هو الأصلح للوقف من حيث المدة لكنهم وسعوا دائرة مدة الإجارة ، وفرقوا بين ما إذا كان الوقف على معينين ، وناظر الوقف من الموقوف عليهم ، والموقوف داراً والمستأجر ليس ممن ترجع إليه الدار فلا يجوز لهذا الناظر أن يؤجر الدار لأكثر من سنة ، وإن كانت أرضاً زراعية فلا يجوز له أن يؤجرها لأكثر من ثلاث سنوات ، وعلة ذلك أن الإجارة تتفسخ بموته ، وأجاز جماعة من فقهائهم تأجير العقار الموقوف فترة طويلة إذا لم يكن على معينين[35] .

ب.المدة الطويلة مقابل الإصلاح :

أما إذا كان الوقف خرباً وتعذرت ، أو تعسرت إعادته من غلته ، أو من كرائه فقد أفتى جماعة من علماء المالكية منهم القاضي ابن باديس والناظر اللقاني ، والأجهوري وأتباعه بتأجيره مدة طويلة لمن يعمره بالبناء ، ويكون البناء ملكاً للباني ويدفع نظير الأرض حكراً ( مبلغاً ) يدفع للمستحقين ، ويسمى هذا التصرف خلواً [36]، وجاء في شرح الخرشي أن القاضي ابن باديس قد أفتى بكرائها السنين الكثيرة ، كيف تيسر ، واشترط إصلاحها من كرائها[37] ، قال العدوي : أي أكثر من أربعين عاماً [38]، وجاء قريب من هذه الأحكام في المذهب الحنفي[39] .

ولم يتطرق الشافعية والحنابلة ـ حسب علمي ـ إلى مسألة طول المدة في إجارة الوقف ، لأنهم تركوا ذلك لأحكام الإجارة .

 

ج.أجر المثل في الإجارة :

اشترط جماعة من الفقهاء ـ منهم الحنفية والمالكية والشافعية ـ أن يكون تأجير الموقوف بما لا يقل عن أجر المثل ، فلا يجوز تأجيره بغبن فاحش ، وأما الغبن اليسير ” وهو ما يتغابن الناس فيه ، أو لا يعدونه غبناً ” ، فلا يؤثر فإذا أجر بأقل من أجر المثل ، فللقيّم على الوقف الفسخ ، ولو زاد الأجرة بعد العقد إلى أجر المثل يجدد العقد بالأجرة الزائدة ، قال ابن عابدين : ( والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد ، وأن المستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة )[40] .

جاء في الفتاوى الهندية : ( ولا تجوز إجارة الوقف إلاّ بأجر المثل كذا في محيط السرخسي ، ولكن العبرة في ذلك ببداية العقد فقد نصوا على أنه لو استأجر رجل أرض وقف ثلاث سنين بأجرة المثل ، فلما دخلت السنة الثانية كثرت الرغبات وازدادت أجرة الأرض فليس للمتولى أن ينـتقص الإجارة لنقصان أجر المثل )[41] .

وقد اختار متأخرو الحنفية أنه لو قام المتولى بتأجير الوقف بأقل من أجر المثل فسكنها المستأجر كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ وعلى ضوء ذلك يعدل العقد وإن لم يرض به المستأجر [42].

ويظهر من ذلك أن العقد الذي تمّ بأقل من أجر المثل إما هو باطل ، أو غير لازم بحيث يفسخه القاضي أو القيّم ، أو يعدله إلى أجر المثل ، أو يـبطل .

وقد استفتى الشيخ عليش المالكي في أرض موقوفة طرح الناس فيها أتربة وأقذاراً حتى صارت تلاًّ لا ينتفع به في الحال ، فأجرها نائب القاضي تسعة وتسعين سنة لمن ينقل منها ما فيها من التربة والأقذار ويبنيها خاناً ، كل ستة بأربعة أرطال زيت لا غير ، وأزال المكتري ما فيها وأصلحها فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة ، فهل تفسخ الإجارة ويصير النفع للوقف؟ فأجاب : ( نعم يفسخ إن وجد حين عقد الإجارة من يستأجرها بزائد عما ذكر ، أما إن لم يوجد حين العقد من يستأجرها بزائد عما ذكر فلا تفسخ )[43] .

ونصّ الشافعية على عدم صحة الوقف إذا أجره الناظر بأقل من أجرة المثل لكنه إذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة ، أو ظهر طالب بالزيادة عليها لم ينفسخ العقد على الأصح ، قال النووي: ( لأن العقد جرى بالغبطة في وقته فأشبه ما لو باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة بالأسواق أو ظهر طالب بالزيادة ، والثاني ـ أي الرأي الثاني للشافعية ـ ينفسخ العقد ، لأنه بان وقوعه بخلاف الغبطة في المستقبل ، والثالث : إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد ، وإن كانت أكثر فالزيادة مردودة وبه قطع أبو الفرج الزازفي الأمالي )[44].

وذهب الحنابلة إلى صحة عقد الإجارة مع كون الأجرة أقل من أجر المثل ولكن الناظر يضمن النقص أي يضمن الفارق بين أجر المثل ، والأجر المتفق عليه في العقد قياساً على الوكيل ، لأن الإجارة عقد لازم لا يفسخ بذلك[45] .

والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي الجمهور حيث فيه الحماية الكافية لمصالح الوقف ، ولخصوصيته ، وأن كون القيم يتحمل الفرق قد يؤدي إلى زهد الناس عن التولية لأن ذلك يضرّ به وقد لا يكون متعمداً فيه ، ولذلك فاعتبار العقد مفسوخاً حتى يتم جبر النقص فيه من قبل المستأجر هو أعدل الأمور والله أعلم .

 

د.عدم لزوم عقد الإجارة في حالتي زيادة المدة ، وعدم أجر المثل :

مع أن عقد الإجارة عقد لازم عند جميع الفقهاء[46] ولكنه في باب الوقف يعتبر غير لازم في حالة ما إذا كانت مدة الإجارة طويلة أو كانت الأجرة أقل من أجر المثل ، وهذه خصوصية أخرى للوقف فبخصوص الإجارة الطويلة نصّ الفقهاء وبالأخص الحنفية والمالكية أن القيم أو القاضي ـ حسب تفصيل ـ يستطيع فسخ الإجارة ، إن كانت المصلحة في ذلك ، أو يعدل العقد إلى إجارة قصيرة أو إلى عقود جارات مترادفة ، أو يبطل العقد ، فقد ذكر ابن عابدين أن أبا جعفر يقول بإبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود ، لكن ابن عابدين خصصه بعدم الحاجة[47] ، وعند الشافعية على الأصح لا يصح العقد إذا كان الأجر أقل من أجر المثل ـ كما سبق ـ[48] .

 

هـ.المزايدة والزيادة في إجارة الوقف :

إذا أجر الوقف بمبلغ ، ثم جاء آخر فزاد عليه بعد تمام العقد ، فهل يجوز فسخ العقد السابق والاعتماد على الزيادة ؟

للإجابة عن ذلك نقول : أن فيه تفصيلاً على ضوء ما يأتي :

أ ـ أجّره أولاً بمبلغ أقل من أجر المثل ثم جاء آخر فعلى القول بالفسخ يفسخ العقد ، ثم يعطى لمن يزيد ، وعلى القول بصحة العقد مع عدم لزومه يخيّر المستأجر الأول بين الفسخ ، أو الزيادة إلى ما يدفعه الآخر ، فإن قبل بها فهو أولى ما دام الآخر لم يزد عليه فإن زاد عليه الأجر فحينئذٍ يتـزيدان ، ويكون العقار لمن يدفع أكثر ويكون عقد الإجارة منحلاً .

ب. أجّره أولاً بأجر المثل ثم جاء آخر فزاد لم تفسخ الأُولى كما هو الحال فيما لو كان تأجير الوقف لثلاث سنوات ، وتغير أجر المثل في السنة الثانية ـ مثلاً ـ بحيث ازداد لم يفسخ العقد[49]. وقد ذكر في شرح الرسالة أن ابن عبدالسلام ذهب إلى أن عقد إجارة الوقف إن لم يكن فيه غبن بل كان فيه غبطة فلا يفسخ بالمزايدة ، وإن كان فيه غبن تقبل الزيادة فيه ، ثم ذكر أن أهل تونس استمروا سنيين كثيرة على أن يكري ربع الحبس على قبول الزيادة فيه ، ويجعلونه منحلاً من جهة المكري ومنعقداً من جهة المكتري وهو قول منصوص عليه في المذهب[50].

2.الإجارة بأُجرتين :

ابتكر الفقهاء هذه الطريقة لعلاج مشكلة حدثت للعقارات الموقوفة في استنبول عام 1020هـ عندما نشبت حرائق كبيرة التهمت معظم العقارات الوقفية أو شوهت مناظرها ، ولم يكن لدى إدارة النظارة الوقفية أموال لتعمير تلك العقارات فاقترح العلماء أن يتم عقد الإجارة تحت إشراف القاضي الشرعي على العقار المتدهور بأجرتين : أجرة كبيرة معجلة تقارب قيمته فيتسلمها الناظر ويعمر به العقار الموقوف ، وأجرة سنوية مؤجلة ضئيلة يتجدد العقد كل سنة ، ومن الطبيعي أن هذا العقد طويل الأجل يلاحظ فيه أن المستأجر يسترد كل مبالغه من خلال الزمن الطويل[51].

فهذه الصيغة التمويلية تعالج مشكلة عدم جواز بيع العقار فتحقق نفس الغرض المنشود من البيع من خلال الأجرة الكبيرة المعجلة ، كما أنها تحقق منافع للمستأجر في البقاء فترة طويلة في العقار المؤجر سواء كان منـزلاً أو دكاناً أو حانوتاً ، أو نحو ذلك ، كما أن وجود الأجرة يحمى العقار الموقوف من ادعاء المستأجر أنه قد تملكه بالشراء مث