الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبع هداه إلى يوم الدين

وبعد ،،

فقد اتسم عصرنا الحاضر بالتقدم في كل الجوانب الصناعية والاقتصادية والعسكرية، وكذلك بالتقدم والتطوير في الحقوق والملكية والمعاملات بشكل كبير، فظهر بفضل التقدم التقني والتكنولوجي بعد فضل الله أنواع كثيرة من الحقوق لم تكن موجودة في السابق، وذلك مثل حقوق الابتكار، والاسم التجاري والصناعي ونحوها وبما أن الشرعية الإسلامية شاملة لبيان حكم أي نشاط إنساني، فإن من الواجب على أهل العلم البحث الحثيث، وبذل الجهد واستفراعه للوصول إلى الحكم الشرعي لهذه النوازل الجديدة بكل دقة عن طريق الاجتهاد الفردي والاجتهاد الجماعي.

ولقد كلفتني الندوة العالمية للزكاة بالبحث عن زكاة الحقوق المعنوية، ولم يسعني إلا الاستجابة لها وذلك بالبحث عن ماهية هذه الحقوق المعنوية وتأصيلها الشرعي، ثم بعد ذلك مدى وجوب الزكاة فيها والله أسأل أن يوفقك لتحقيق الهدف الذي كلفت به وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، ويعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعقيدة والعمل، أنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير.

التعريفات بالحقوق المعنوية

الحق لغة: بمعنى الثابت، والصحيح والجدير، والصدق، ونقيض الباطل، وهو اسم من أسماء الله تعالى أي الثابت بلا شك، ويطلق على النصيب الواجب للفرد، أو الجماعة وجمعة حقوق، وحقاق، وحقوق الله تعالى ما يجب علينا نحوه من عبادته، وتوحيده، وطاعته وحقوق الدار مرافقها[1].

وفي الاصطلاح:

نجد أن علماء الأصول[2] أطلقوا الحقوق على حقوق الله تعالى وحقوق العباد، وقسموها إلى أربعة أقسام  ، وهي:

1- حقوق الله الخالصة، وقد عرفها بعض الأصوليين[3] بأنه متعلق أمره ونهيه وهو عبادته، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) سورة الذاريات 56، فيكون كل تكليف شرعي حق الله تعالى.

2- حقوق العباد الخالصة ، مثل الحقوق المالية.

3- ما اجتمع فيه الحقان وكان حق الله هو الغالب كحد القذف عند الحنفية، وأما عند الجمهور الشافعية ، والحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفية فإن حق العبد منه هو الغالب.

4- ما اجتمع في الحقان وحق العبد هو الغالب كالقصاص من القاتل العمد[4] ولكن الشاطبي حصر الحقوق على الأقسام الثلاثة الأولى نافياً القسم الثاني السابق حيث لا يرى وجود ما يسمى بحق العبد الخالص[5].

وقسم ابن تيمية الحقوق إلى قسمين:

أحدهما: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لعامة المسلمين، وكلهم محتاجون إليه، وتسمى حدود الله، وحقوق الله، وذلك مثل حد قطع الطريق، والسرقة، والزنا ونحوها ، ومثل الحكم في الأموال السلطانية، الوقوف والوصايا التي ليست لمعين.

ثانيهما: الحدود والحقوق التي تقررت لشخص معين[6]وقد رتب الفقهاء أثاراً كثيرة على هذه الأقسام السابقة، وبالأخص على حق الله ، وحق العبد، حيث إن حقوق الله تعالى لا تقبل الإسقاط من العبد، ولا تورث، ويدخل فيها الحسبة والملاحقة، ونحو ذلك[7].

وقد عرف القاضي حسين الحق بأنه “اختصاص مظهر فيما يقصد له شرعا”[8] ، والحق في عرف الفقهاء له مدلول واسع حيث يطلق على الحقوق الخلقية مثل حق المسلم ، وحق الجار، وحق الصاحب، وعلى الحقوق المالية، ويطلق كذلك على ما يقابل الأعيان والمنافع المملوكة كحق الشفعة، وحق الحضانة ، والولاية وغير ذلك ولذلك عرفه الأستاذ أبو سنة بأنه “ما ثبت في الشرع للإنسان، أو لله تعالى على الغير”[9] وهو هذا المعنى يشمل ملك العين، والمنفعة، والحقوق الفكرية، والفطرية وغير ذلك، في حين أن الأستاذ الزرقا قد جعل الاختصاص قوام الحق وحقيقته ولذلك عرفه بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة ، أو تكليفاً” وبذلك تخرج الإباحات العامة كالاصطياد والاحتطاب ، ولا تشمل الأعيان المملوكة لأنها أشياء مادية ولست اختصاصاً في سلطة، أو تكليف، ودعم رأيه بأن الفقهاء يطلقون الحقوق في مقابلة الأعيان[10] وقد ثار الخلاف بين القانونين في تعريف الحق على أربعة مذاهب منها تعريف الدكتور السنهوري بأنه “مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للغير”[11]، عرفه الآخرون بأنه “استئثار شخص بمزية يقررها القانون له، ويخولها بموجبها أن يتصرف فيه قيمة معينة باعتبارها مملوكة ، أو مستحقة له[12].

ثم إن الحقوق المالية تنقسم عند بعض القانونيين إلى ثلاثة أقسام:

1.    الحق العيني وهو سلطة لشخص تنصب على شيء مادي كحق الملكية.

2.  الحق الشخصي ” أو الالتزام ” وهو حق يتمثل في رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يقوم إحداهما وهو المدين قبل الآخر وهو الدائن بأداء مالي معين كحق المستأجر قبل المؤجر الذي يلتزم بالتمكين من الانتفاع بالعين المؤجرة.

3.  الحق المعنوي وهو سلطة لشخص على شيء غير مادي كالأفكار والمخترعات، ولم تنظم معظم التشريعات هذا النوع[13].

“المعنوية” نسبة إلى المعنى ”

وهو لغة ما يدل عليه اللفظ وجمعه معان، والمعاني ما للإنسان من الصفات المحمودة والمعنوي خلاف المادي، وخلاف الذاتي “محدثتان”[14] ، وهذا المعنى الأخير المقصود فالحقوق المعنوية يعني الحقوق غير المادية.

التعريف بالحقوق المعنوية في الاصطلاح:

الحقوق المعنوية هي مصطلح واسع يسع معناها جميع الحقوق غير المادية، فيدخل فيها الحقوق الفكرية كحق التأليف والصناعة.

فقد عرف القانونيين الحق المعنوي بأنه سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره، أو خياله، أو نشاطه كحق المخترع في مخترعاته، وحق التاجر في الاسم التجاري، والعلامة التجارية وثقة العملاء[15]، وقد يعبرون عنها، أو عن بعضها بالحقوق الذهنية، والحقوق الأدبية، والحقوق الفكرية، وحقوق الابتكار، والملكية الأدبية والفنية والصناعية والاسم التجاري، وحق الاختراع وحقوق التأليف.

والحق المعنوي هو ثالث أنواع الحقوق لديهم بعد الحق العيني الذي يتعلق بشيء معين يمكن أن يؤخذ دون الحاجة إلى وساطة أحد، والحق الشخصي الذي يعطيه الحق في المطالبة دون أن يباشره إلا بواسطة المدين[16].

وعندما ظهرت الحقوق المعنوية اختلف القانونيون في اعتبارها حق ملكية حقيقية، فذهب بعضهم إلى أنها حق ملكية حقيقية، إذ فيها جميع مقوماتها الأساسية، وذهب آخرون إلى أنها ليست بحق ملكية، ولكنها احتكار للاستغلال في الجانب المالي، وحق من حقوق الشخصية في الجانب الأدبي، وذهب فريق ثالث إلى أنها حق عيني معنوي في جانبه المالي، وحق من حقوق الشخصية في جانبه الأدبي وذلك لأن محلها غير مادي[17].

والتحقيق أن كون الحق مادياً، أو غير مادي إنما يصح باعتبار متعلقه، وإلا بجميع الحقوق ، بما فيها حق الملكية، معنوية[18].

وعند النظر في كتب الفقه والأصول لا نجد هذا الاسم ،و إن كان المحتوى محققاَ، ولذلك اختلف المعاصرون في تسميتها فقسماها شيخنا مصطفى الزرقا حقوق الابتكار[19]، وتبعه الأستاذ فتحي الدريني[20] وذلك لأن اسم “الحقوق الأدبية” ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية، والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب والنتاج الفكري، في حين أن اسم “حق الابتكار يشمل ذلك كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه “الملكية الصناعية”[21].

وربما يرد على هذا الاسم أيضاً بأنه أخص من المطلوب، لأن “الابتكار” يوحي بتخصيص هذه الحقوق بما فيه الابتكار والإبداع فقط في حين أن الحق قد يترتب هنا، وإن لم يوجد ابتكار سواء أكان في الأدبيات أم في الأسماء التجارية، أم الصناعية أو نحوها[22] ولذلك نرى إبقاء هذا الاسم وهو “الحقوق المعنوية” .

وكون هذا المصطلح جديداً لا يمنع من اعتباره ، إذ العبرة بالمحتوى وليس باللفظ والمسمى، وذلك لأن محل الملك في نظر الفقه الإسلامي أعم من كونه مادياً أو غير مادي، وبهذا الاعتبار تدخل هذه الحقوق في الملكية بل وفي المال عند جمهور الفقهاء “ما عدا الحنفية”[23] كما أن الفقه الإسلامي لا يشترط في الملكية التأييد كما في ملك المنفعة للعين المستأجرة، لأن المقصود بالملك هو علاقة اختصاص أي أنه يختص بالمالك دون غيره فلا يعترضه في التصرف فيه أحد[24]، لذلك فدخول الحقوق المعنوية في الحقوق والملكية لا يؤدي إلى أي مخالفة لنص ولا لقاعدة فقهية، ولا لمقاصد الشريعة وقواعدها، في حين أن اعتبارها في القانون كان يؤدي إلى حرج في القانون حيث يشترط أن يكون محل الحق مادياً[25].

وبذلك يتبين لنا أن موقف الفقه الإسلامي من هذه الحقوق يختلف عن القانون ، لأن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون حيث لا يشترط أن يكون محل الملك شيئاً مادياً معنياً بذاته في الوجود الخارجي، وعلى ضوء ذلك فمحل الحق المعنوي داخل في مسمى المال في الفقه الإسلامي، وذلك لأن له قيمة بين الناس ويباح الانتفاع به شرعاً فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت، كما أنه  لا يشترط التأبيد في المالية[26].

   وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر في دورته الخامسة بالكويت عام 1409هـ 1988م اعتبر الحقوق المعنوية حقوقاً مالية مصونة ويرد عليها التصرف الشرعية الواردة على الملكية حيث نص على :

أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية والتأليف، والاختراع، والابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها ، أصبح لها في العرف المعاصرة قيمة مالية لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها.

ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً.

ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها.

اعلى الصفحه

أنواع الحقوق المعنوية:

للحقوق المعنوية أنواع كثيرة ذكرها القانونيين فنحن نذكرها مع بيان تأصيلها الشرعي وهي:

الاسم التجاري أو العلامة التجارية  ” Trade Mark ” .

2-الترخيص التجاري ” License ” .

3- الملكية الذهنية أو الأدبية والفنية ” Intellectual Property ” مثل حق التأليف والنشر وحق الابتكار وحق الرسام في لوحاته الفنية المبتكرة.

  ونحن نحتاج لمعرفة وجوب الزكاة في هذه الحقوق إلى أن نتصورها بعمق، ويتبين لنا هل هي أموال تتوافر فيها شروط الزكاة أم لا؟ ولا سيما أن هذه الحقوق لم تكن معروف بهذا التوسع في عهد الفقهاء القدامى لكنهم تحدثوا عن أنواع من الحقوق وعن الاعتياض عنها حسبما كان موجوداً أو متصوراً في عصرهم، وبالأخص ما يخص الحقوق المجردة وما يجوز الاعتياض عنه وما لا يجوز حيث نستطيع من خلال ما ذكروه في هذا المجال الوصول إلى إيجاد أرضية صالحة لبيان الحكم الشرعي للأنواع المعاصرة[27].

ومن هذه الحقوق حقوق لا تثبت لأصحابها إلا بنص من الشارع، إذ لا مدخل للقياس فيها مثل حق الشفعة، والولاء، والوراثة، والنسب، والقصاص، والتمتع بالزوجة، والطلاق، والحضانة، والولاية، وحق المرأة في قسم زوجها لها.

أ – حقوق شرعت لدفع الضرر مثل حق الشفعة، وحق القسم للمرأة وحق الحضانة، وولاية اليتيم وخيار المخيرة، فهذا النوع لا يجوز الاعتياض عنها لا عن طريق البيع، ولا الصلح والتنازل بمال، وذلك لأن الحق إنما ثبت لدفع الضرر، فإذا تنازل عنه لآخر فهذا يدل على أنه لا ضرر فيه عليه[28].

 حقوق شرعت أصلية[29] لا لدفع الضرر مثل حق القصاص، وحق تمتع الزوج وحق الإرث، وحق الولاء ونحوها.

 فهذا النوع لا يجوز بيعها ، حيث لا يجوز لولي قتيل أن يبيع حق الاقتصاص إلى آخر، ولا للزوج بيع حق التمتع، ولا لوارث أن يبيع حق إرثه بحيث يرث هو عوضاً عن الوارث الحقوق، وذلك لأن هذه الحقوق إنما أثبتها الشارع لأشخاص متصفين بصفات معينة شخصية، ولذلك لا تباع ولا توهب، ولا تورث[30]، ويدل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته(3) قال ابن بطال ” أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب ، فإذا كان حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فهي الشرع عن ذلك”(4) وقد روي أن ميمونة وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وجاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن عروة وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء وكذا عن ابن عباس ، قال الحافظ ابن حجر ” ولعلهم لم يبلغ الحديث”[31].

غير أن هذه الحقوق السابقة يجوز الإعتياض عنها بطريق الصلح والتنازل على مال، فولي القتيل يجوز له أي يصالح القاتل على مال “الدية” في مقابل عفوه عن القصاص، بنص القرآن والسنة والإجماع له الحق في أن يصالح زوجته على مال في مقابل طلاقها عن طريق ما يسمى بالخلع، أو الطلاق على المال، وهذا ثابت بنص القرآن والسنة والإجماع.

لكن هذا الاعتياض إنما يجوز إذا كان الحق ثابتاً قائماً كما في الحقين السابقين، أما إذا كان الحق متوقعاً في المستقبل غير ثابت الحال فإن ذلك لا يجوز الاعتياض عنه مطلقاً، وذلك مثل حق الإرث في حالة حياة المورث، وحق الولاء في حياة المولي لذلك لا يجوز الصلح عليهما بالمال أيضاً، لكن إذا مات المورث أو المولي فإن ذلك الحق ينتقل إلى مال مادي في تركته فيصح بيعه، أو التنازل عن بطريق التخارج – كما هو معروف في علم الفرائض[32].

ب- حقوق الانتفاع والتصرفات فيها:

والتصرفات الواردة على الانتفاع :

أما النوع الأول : التصرفات الواردة على منافع الإنسان: كما في إجارة الأشخاص إجارة معينة أو في الذمة، وكما في المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، حيث العقود واردة فيها على منافع المضارب، والساقي والمزارع في الجملة، وكذلك الأمر في الشركة من حيث الجملة، يقول الزركشي “وأما العقد على المنافع فعلى ثلاثة أقسام منها ما هو بعوض وهو الإجارة والجعالة والقراض والمساقاة والمشارة، منها ما هو بغير عوض كالوقف والشركة، والوديعة والعارية، وحفظ اللقيط ، ونوعان مترددان بين هذين القسمين، وهما الوكالة، والقيام على الأطفال فإنه تارة يكون بعوض وتارة بغير عوض، ومنها المسابقة والمناضلة وهي قسم مفرد[33]، إذا المراد تمليك المنفعة”[34].

النوع الثاني: التصرفات الواردة على منافع غير الإنسان وهي تشمل:

1)  الإجارة على الأعيان بكافة صورها سواء كانت معينة عند العقد، أو موصوفة في الذمة، ثم التصرف من قبل المستأجر بتأجير العين أو إعارتها – كما سبق.

2)   وقف المنفعة والتصرف فيها من قبل الموقوف عليه، كما سبق بالإجارة أو نحوها[35].

LinkedInPin