إن لهذا الدين الحنيف العظيم منهجاً خاصاً به، ومنهاجاً قويماً قوياً لإصلاح الإنسان، هذا المنهج القويم العظيم يهتم ويبنى ويقوم على فكرة ومبدأ فقه الميزان، والزوجية والشفعية التي خلق الله تعالى الكون كله عليه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}، من الأمور المبتكرة الجديدة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قول الله تعالى:{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} بأن الشفع هو كل الكون ما عدا الله تعالى، وأن الوتر هو الله وحده.

هذا الكون قائم على هذه الزوجية، سواء كانت بين بني الإنسان أو الحيوان أو البنات أو الجماد، وهذا المنهج نفسه هو الذي تقوم عليه الشريعة الغراء، فتعالج كل القضايا من خلال المنهج الزوجي القائم على كفتي الميزان.

أما بالنسبة لإصلاح الإنسان فرداً وجماعة وأمة فهو يقوم على هذا المنهج الدال على وجوب الإصلاح الباطني والظاهري، وعلى إصلاح الداخل والخارج، ولا يمكن أن يتحقق إصلاح أي منهما إلا بإصلاح الآخر، فإذا كان الداخل المتمثل بالقلب والروح والنفس والعقل صالحاً لا بد أن يكون الظاهر صالحاً، ومعيار صحة الظاهر وصلاح أفعال الجوارح من أداء الشعائر وسلامة الأفعال وحسن الأقوال أن تكون نابعة من داخل سليم صالح صحيح صافٍ، قال صلى الله عليه وسلم:" أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، وقال في حديث آخر:" لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ".

إذا كان المرء مؤمناً حقاً ظاهراً وباطناً تجلت آثار إيمانه في تعاملاته وسلوكه مع فئات المجتمع من حوله، وقد رأى سيدنا عمر رضي الله عنه رجلاً يعبث بلباسه وهو في الصلاة، فقال لمن حوله من الصحابة: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

وإننا نرى كثيراً من المصلين اليوم إذا دخل في الصلاة عدل هندامه، ورتب نفسه، وهندس شكله، وتوالت منه الحركات في الصلاة، وهذا مما تبطل به الصلاة، ومما يدل على غفلة القلب عن الصلاة، ومعن إدراك ما فيها من التجليات.

فلا يسلم القلب إلا إذا كان مشفوعاً بسلامة عمل الجوارح، وصالح عمل الجوارح دليل على استقرار الإيمان في القلب، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، إنَّمَا الْإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ".

وقد يتشدق البعض فيقول: لا حاجة إلى الاهتمام بظاهر العمل من حضور الجمع والجماعات، وأداء الزكاة والصلوات، وغير ذلك ما دام القلب سليماً تقياً.

إن هذه دعوى باطلة، وحجة مدعيها داحضة، من عدة أوجه:

أولاً: من خلال مفهوم التقوى، فإن الله تعالى لم يذكر في أي آية تقوى القلب منفرداً عن العمل الصالح، بل ربط في الآيات الدالة والآمرة بالتقوى بين التقوى في القلب والمسارعة إلى صالح العمل.

ثانياً: لو كان المدعي تقياً، فلِمَ لا يسارع إلى تنفيذ أمر الله تعالى، ولا يستجيب له؟

ثالثاً: أن العبادات المنصوص عليها يقدرها الشرع، وليس الإنسان، وإن الزيادة أو الإضافة عليها، أو النقص منها يعتبر افتراءً على الله تعالى وكذباً، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}، كما يعتبر بدعة محرمة.

رابعاً: منهج الإسلام زوجي شفعي قائم على فقه الميزان وكفتيه، حيث نجمع ما ورد من الآيات في موضوع ما، مع ما ورد في الموضوع ذاته من السنن والأحاديث الصحيحة، ثم نصدر حكماً نابعاً من تلك النصوص، ولا يجوز أن نعتمد في إصدار الحكم على جزء أو جانب واحد.

فالآيات التي تتحدث عن سلامة القلب وتقواه لا تنفي الاهتمام والاعتناء بسلامة الظاهر من قول وعمل، وبذلك يتحقق الميزان، وهذا فقه مهم ينبغي على كل مسلم أن يعلمه ويتقنه.

إن الله تعالى يريد من المسلم أن يكون قوياً، والقوة لا تتحقق بالاعتناء بالقوة البدينة وكثرة العتاد، ووفرة الوسائل، وإنما لا بد من الإعداد المعنوي والتوجيه النفسي.

فكم من جيوش ملك قوة مادية وعتاداً لا يقهر، لاذت بالفرار!؛ لأنها لا تمتلك القوة المعنوية، وكل العلوم العسكرية اليوم تركز على الاستعداد المعنوي قبل المادي للجنود، إذ يمثل ذلك أكثر من 50% في ميدان الانتصار أو الهزيمة.

إن الله تعالى يريد من المسلم أن يكون قوي القلب الروح والنفس والعقل، معتمداً على الله تعالى، حتى تظهر آثار هذه القوة في فعله وقوله وسلوكه مع المجتمع.

كيف تتحقق الشجاعة ـــ مثلاً ـــ دون قلب قوي جريء لا يخاف؛ إذ القلب الجبان المتردد لا يكون مقداماً.

وكذلك الكرم، فلا يقدم على الإنفاق والبذل بجود وسخاء إلا من قوي قلبه في الاعتماد على الله تعالى، والتصديق بوعد الله تعالى للمنفق من حيث التعويض والأجر، فكل عمل طيب مرده إلى القلب، ومفجره الطاقة الكامنة فيه.

لا يجوز للمسلم أن يفصل بين الظاهر والباطن، كما لا يجوز أن يفصل بين مكونات جسده، فمكونات جسد الإنسان مركبة من 46 كور موسون؛ 23 منها ذكر، و23 منها أنثى، هكذا خلق الله تعالى الإنسان والكون، وهكذا أنزل الشريعة، وغاية الإعجاز في ذلك تناسب الشريعة وترابطها بطبيعة الإنسان وحقيقته وتكوينه، فالإنسان زوج ومركب من زوج، وكذلك الشريعة، ولا يمكن فهم الشريعة بفهم أحادي أو عقلية أحادية، وإنما بفكر زوجي وعقلية زوجية، واعية لفقه الميزان.

علينا أن نعتني بالظاهر كما يجب علينا أن نعتني بالباطن، والمراد بالظاهر أخلاق الإنسان وتصرفاته وعباداته وسلوكه وأفعال الجوارح وأقوال اللسان.

لا بد أن يكون القلب مستقيماً ليستقيم اللسان، كما يجب أن يكون الباطن مستقيماً والظاهر مستقيماً، وقد قال العلماء المحققون: إن مقياس قبول العبادات والأعمال أمران:

الأول: الإخلاص، وهو عمل قلبي، ومنه النية التي محلها القلب.

الثاني: موافقة الشرع، وهو يعني الابتعاد عن الرياء والنفاق وغيرهما من الأمراض المخلة بقبول العمل.

ولن يستقيم الإنسان إلا باستقامة الظاهر والباطن.

الخطبة الثانية:                      

مشاكل أمتنا الإسلامية بشكل عام تعود إلى عدم إصلاح الباطن والظاهر، وإلى عدم ربط الباطن بالله تعالى، وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان على الإنسان ليستحوذ عليه، ويجلب من خلال ذلك الأهواء والمغريات، ويغرس في القلب البعد عن الله تعالى، ويشعره بالافتقار والحاجة إلى مخلوق مثله، فيخاف المرء من غير الله تعالى ويزداد قلبه بعداً عن الله تعالى وتفتح الشرور عليه أبوابها كلها فيهلك.

إن كان المرء ذا سلطان أحب أن يحمي سلطانه بالاعتماد على غير الله تعالى، فيرضى بالذل ويقبله بكافة أشكاله، ولو كانت المحافظة على المناصب تأتي بالعمالة والجاسوسية والتنازل لبقي شاه إيران في منصبه، ولكان له ما أراد، ولما سقط، حتى إن من استخدمه ورقة رفض علاجه.

إن الاعتماد على الله تعالى مع حسن التعامل والكياسة والسياسة وحسن التدبير دليل قوة الإيمان وسلامة القلب، وشتان ما بين المعاملة الحسنة الإنسانية الراقية وبين التنازل، والاعتماد على الأعداء في الوقت التي يجاهر البعض بعداوته للإسلام وأهله، ويكيد بالمسلمين، ويدبر في تدميرهم.

إن من أخطر أمراض المجتمع هو الانفصام بين الداخل والخارج، وهو ما يسمى بالنفاق، والنفاق مخالفة الظاهر لما يعتقده الباطن، ولقد كان المنافقون يصلون ويزكون ويؤدون كل المناسك، وكانوا يتقربون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول الحسن، ولكن الله فضحهم، حيث قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.

وقد اعتبر النفاق أكبر من الكفر، حيث تحدث القرآن الكريم في سورة البقرة عن المؤمنين في ثلاث آيات، وعن الكفرة في آيتين، وتحدث عن النفاق واليهود وانفصال باطنهم عن ظاهرهم في أكثر من مائة آية.

إن ربط الداخل وإصلاحه بالله تعالى مع إصلاح الظاهر من أهم ما تقوم عليه الشريعة.

اللهم أصلح أحوالنا.

الجمعة في 28 / 12 / 2018م