اليوم نعيش مع دعاء من أدعية القرآن الكريم، هذا الدعاء لأحد الأنبياء المرسلين الذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في سيرته مواعظ وعبر لنا جميعا، وهو سيدنا يونس ذو النون عليه السلام، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى لنينوى التي تسمى اليوم بالموصل، هذا البلد التاريخي أرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا يونس إلى هذا البلد؛ فدعاهم وقام بالواجب نحوهم لكنّهم لم يستجيبوا، ثم فرض على الله سبحانه وتعالى أن ينزل عليهم العذاب، والله سبحانه وتعالى من حكمته وعدله يعطي الفرصة، فأعطى الفرصة لأهل الموصل، وقبل أن تنتهي هذه المدة خرج سيدنا يونس عليه السلام، والقوم تابوا إلى الله تعالى وعادوا إليه؛ فكشف الله تعالى عنهم الغمّة، ورفع عنهم العذاب والبلاء، وسيّدنا يونس كما قال رب العالمين(وإنّ يونس لمن المرسلين إذ أبقى إلى الفلك المشحون)، لا تستعمل كلمة الإباق إلاّ بين السيد والعبد، وكأن الله سبحانه وتعالى يشبّهه بالعبد الآبق الهارب من ربّه، وكيف يهرب؟ يمكن للعبد أن يهرب من مكان إلى مكان، ولكن إذا كان المالك والسّيد هو الله عزّ وجلّ فكل الأرض لله سبحانه وتعالى، (إذ أبقى إلى الفلك المشحون)، فذهب إلى البحر، وركب سفينة مملوءة بالناس، وهاجت الأمواج بقدر الله سبحانه وتعالى، وفزع الناس، وكان الاعتقاد السائد وقتها أن الأمواج لا تهيج إلا بشؤم راكب، وتشاورا فيما يجب فعله، فاهتدوا إلى الاقتراع، ومن خرجت القرعة باسمه يرمى في البحر، وخرجت القرعة ثلاث مرات باسم سيدنا يونس عليه السلام، ولماذا أعادوا القرعة؟ لأنّه كان ضيفا عليهم وهم كانوا من أهل السفينة حملوه، فأرادوا أن يخرج من البحر حتى تخف السفينة منهم، لكنّ الله عزّ وجلّ أراد غير ذلك، ثلاث مرّات والسهم يطلع على سيّدنا يونس عليه السّلام.
رمي به في البحر، فالتقته الحوت، فالتقمه الحوت، ولكنّه لم يمت لأنّ هذا قدر الله تعالى، قدرة الله سبحانه وتعالى تستطيع أن تحوّل النار بردا وسلاما، وأن تحوّل بطن الحوت مكانا آمنا للإنسان، وفيه النفس والأكسجين وكل شيء.
الذي يقتضيه الميزان، أنّ المعجزات من ميزان قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس من ميزان سنن الله تعالى وأسبابه، سنن الله تعالى هي الغالبة، وهي العامّة، وهي الشّاملة، لابدّ من الأخذ بالأسباب، أنّ النار تحرق، وأنّ بطن الحوت مميت، هذه هي السّنة الكونية، لكن هل الله سبحانه وتعالى قادر على خرق هذه السنن؟ طبعا كيف لا يقدر عزّ وجلّ، وهو خالقها، لكنّ من كان متّجها نحو ميزان المعجزات، وخرق العادة فيفسّره تفسيرا طبيعيا، وأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي حماه.
رمى نفسه(فالتقته الحوت وهو مليم)، لماذا مليم؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى أمره أن يبقى في قومه؛ فالله سبحانه وتعالى أمره بذلك، و لابد أن يكون قدوة، والقدوة يكون في آخر القوم، وينتظر أمر الله سبحانه وتعالى كما فعل سيدنا لوط عليه السلام، فلامه الله سبحانه وتعالى، ثم يبين الله سبحانه وتعالى :(فلولا أنه كان من المسبحين)، أي أنه قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، فوصل هذا الدّعاء إلى العرش، وسمعه الله سبحانه وتعالى، وهو السّميع العليم، وسمعه أيضا الملائكة، هذا الصوت الضعيف في بطن الحوت، فالله سبحانه وتعالى نجّاه (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)، والمقصود أنه يكون بطن الحوت قبره، وليس القبر الحقيقي، فلولا تسبيحه لأصبح بطن الحوت قبرا له ثم يبعثه الله سبحانه وتعالى منه، ولا يدل أيضا على أنّ الحوت يبقى، وإنّما المقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى بطن هذا الحوت قبره كما تأكل السباع أي إنسان، ثم بعد ذلك تحدث القرآن الكريم(فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)، فنجّاه رب العالمين، ( فاستجبنا له فنبذناه بالعراء)، فلما استجاب دعاءه أمر الحوت فرماه حيث وقع على اليابسة، و أنبت الله سبحانه وتعالى عليه شجرة من يقطين، أي شجرة من القرع كما يسمى أو الدبّاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب هذه الثمرة، و قد أثبت العلم الحديث أن هذه الشجرة فيها مقاومات و مضادات للمكروبات و البكتيريا، لأنّ جسد سيدنا يونس عليه السلام قد أصابه البكتيريا، فالله سبحانه وتعالى هنا جاءت الأسباب مرّة أخرى مع المعجزات، فبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ الإنسان يجب عليه إذا كان مريضا أن يأخذ أيضا من الأدوية وغير ذلك.
الدّعاء الذي نادى به سيدنا يونس عليه السلام، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ"، ويدل عليه قول الله سبحانه وتعالى 🙁 وكذلك ننجي المؤمنين)، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى، أيّ مؤمن يدعو في حالة الكرب و ما أكثر كروبنا في بلادنا، وندعو بهذا الدعاء، ونكثر منه، ونتضرع إليه سبحانه وتعالى.
هذا الدعاء يتضمن أربعة مبادئ أساسية للعلاقات بين المسلمين، أول مبدأ يستنبط من هذا الدعاء هو أن تكون العلاقات لله سبحانه وتعالى، كل شيء نلجئه إلى الله سبحانه وتعالى، أصادقك لله، أحبّك لله، أكره الكافر أو الفاسق لله، أعطي لله، أمنع لله، أحسن لله، كل أعمالنا تكون لله سبحانه وتعالى، فما علاقة هذه المسألة بالعلاقات الاجتماعية؟ العلاقات الاجتماعية إذا كانت مبنية على هذا الأساس لا يكون فيها منٌّ، ولا أذى، ولا تكرار فلا تقول كل وقت الحمد لله سعدناك و فعلنا كذا و كذا ..الخ، أو في المجالس تذكر أنك ساعدت فلان ، أبدا هذا ليس من شيم المسلمين، أعطيته لله خليه بينك وبين رب العالمين، قال تعالى(وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، نعم في الأمور العامة إذا أعطيت للجمعيات الخيرية مثلا يجوز ذلك، ولكن في عامة العلاقات و الأمور يجب أن تكون لله تعالى، فلا يجب أن تقوم العلاقات على المنّ و الأذى، (كالذي ينفق ماله رئاء الناس)، فمعظم المشاكل بسبب هذا، أيضا الجانب النفسي في هذا الأمر ، أنت إذا أعطيته لله عزّ وجلّ لا يهمّك مقابلته، ومكافأته لك، وهذا ما دلّ عليه قول الله سبحانه وتعالى في سورة الانشراح، وهي من أسباب السعادة و الانشراح (و إلى ربّك فارغب)، جميع رغباتك تكون لله سبحانه وتعالى، أعطي لله عزّ وجلّ ولا يهمّني بعد ذلك.
المبدأ الثاني أنّ الإنسان قائم على الخطأ (كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التّوابون)، ما الذي يدل على هذا المعنى؟ لا إله إلا أنت سبحانك، سبحانك أي التّنزيه من الخطأ ومن الخطيئة، ومن النقصان، ومن كل شيء في هذا المجال لله سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له في التنزيه، وهذا يعني أن الإنسان يخطئ، إذا لابد أن تكون العلاقات الاجتماعية قائمة على هذا التقبل وعلى هذا التحمل، فهذا سيدنا يونس نبي من أنبياء الله تعالى وقع منه شيء فلامه الله عزّ وجلّ، وقع منه شيء ظلم لنفسه، نعم تاب إلى الله تعالى لكنّه مليم، إذا فالتنزيه لله وحده.
المبدأ الثالث الاعتراف و الاعتذار (إنّي كنت من الظالمين)، مع الأسف الشديد مبدأ الاعتذار ، ومبدأ الاعتراف بالخطأ و الخطيئة مبدأ لم يرب عليه الكثيرون، ففي المصالحات عندما أطلب من الشخص الاعتذار من أخيه لا يعتذر له وهذا كثير ، والغربيون – مع الأسف الشديد – أفضل منّا فهم يربون الأطفال من الروضة على التسامح، فقد كنت في خلال هذه الفترة في جولة في بلد أوروبي رأيتهم يربون الأطفال على مبدأ التسامح ، فإذا صدر من طفل خطأ اتجاه زميله يعتذر له، و الاعتذار يمحو الضغائن من النفس، لكن إذا تركته دون اعتذار تأخذه العزة بالإثم.
المبدأ الرابع والأخير أنّك لست وحدك في أنّك أخطأت تجاه شخص ما، وإنّما هناك آخرون أيضا فكلنا نخطئ، والمجتمع لا يخلوا من هذا أبدا، فمجتمعنا ليس مجتمعا ملائكياً، وإنّما مجتمع الإنسان الذي يقع فيه الخطأ والخطيئة، فإذا رتّبت هذه المبادئ الأساسية الأربعة فحينئذ نستطيع أن نعيش إخوة كما أراد الله سبحانه وتعالى (إنما المؤمنون إخوة).