الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد
فقد اتسمت صياغة نصوص الشريعة الإسلامية الغراء بمرونة ودقة لا نجدهما في غيرها من النظم و الشرائع، حيث يتضمن معظم نصوصها – ولا سيما في نطاق العادات والمعاملات- عدة حلول، وتحتمل أكثر من معنى، ويأخذ كل منها بقدر وعيه وعمره، فيختار المجتهد في كل عصر المعنى الذي يتراءى له رجحانه على ضوء قواعد الاجتهاد ومقتضيات اللغة والعرف، وما يحقق المصلحة العامة المطلوبة شرعاً، دون أن يغير النص الوارد إن كان قد ورد فيه نص، وإنما التغير وارد في الفهم حيث قد يفهم منه مجتهد معنى ويفهم منه آخر معنى آخر، وقد يستدل به مجتهد على حكم، ويستدل به آخر على نقيض الحكم، وقد يفهم منه مفسر معنى يتلاءم مع عصره، ويفهم منه آخر معنى آخر على ضوء مستجدات العصر- كما نرى ذلك كثيراً في فهم نصوص القرآن الخاصة بالأمور الكونية…
كل ذلك دليل على أن صياغة هذه النصوص أو معانيها ليست من عند البشر، وإنما من عند الخالق الخبير الحكيم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[1]، وكل ذلك برهان على كمال الشريعة وعدم حاجتها إلى الاعتماد على غيرها، لأنها تدل على جميع الأحكام أما نصاً أو استنباطاً من خلال قواعدها العامة، ودلالاتها الكثيرة، وأدلتها التي أقرتها، وقد بين العلماء أن من كمال الدين وعظمته كونه ينص على الأساسيات والثوابت، ويأتي بنصوص مرنة، ثم يأمر بالاجتهاد ويتعبد المكلفين به لا يبقى حكم ألا ويمكن الوصول إليه ذلك لأن النصوص متناهية، والحوادث لا تتناهى، فأتت النصوص بهذه الصورة حتى تعالج جميع أفعال المكلفين في كل العصور والأزمان[2].
ومن هذه النصوص المرنة قوله تعالى (وفي الرقاب) للتعبير عن إعطاء سهم لهؤلاء العبيد الذين أثقلت كواهلهم ورقابهم بذل العبودية – لغير الله تعالى – ففهم الأكثرون في وقته أن هذا هو المراد وحده، ولكن دقة أسلوب القرآن ومرونته، والبحث عن الحكمة في العدول عن لفظ “العبيد” أو “الأرقاء” إلى لفظ “وفي الرقاب” كل ذلك يدفع بالباحث إلى إعادة النظر في معناه مرة أخرى .
ومن هذا المنطلق خضت في غمار هذه الآية لأجد فيها البيان لمدى جواز دفع أموال الزكاة في فدية المختطف- بفتح الطاء- والأسير، فتناولت معاني “الرقبة” في اللغة من خلال كتبها المعتمدة، ومواردها في القرآن الكريم، والسنة المشرفة، وبيان الحكمة في استعمال “وفي الرقاب” دون لفظ” تحرير أو “فك” والحكمة في استعمالها بصيغة الجمع، وفي العدول عن اللام إلى “في” والحكمة في استعمال “رقبة” أو “الرقاب” دون لفظ “العبد” أو “المملوك” أو “الرقيق” ثم ذكرنا أراء المفسرين في تفسير “الرقاب” واتجاهاتهم المختلفة حولها، كما تناولنا توسع بعض المفسرين في مدلول “وفي الرقاب” ثم أوجزنا الفائدة من الإسهاب في المبحث اللغوي لهذه الكلمة، ثم استعرضنا آراء الفقهاء في مدى جواز دفع مال الزكاة في فك الأسير، ويطلب ذلك أن نذكر معنى الأسر لغة واصطلاحاً، وفي القرآن الكريم والسنة، ثم آراء الفقهاء، وتحرير محل النزاع، وسبب الخلاف ،و أدلة كل فريق، ثم المناقشة والترجيح.
وبعد ذلك تطرقنا إلى حكم المختطف – بفتح الطاء- ولا شك أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولذلك تطرقنا إلى معنى “الاختطاف” لغة واصطلاحاً، وموارده في القرآن الكريم والسنة، لنعلم مدى دخوله في عموم الأسر وبالتالي في “وفي الرقاب” ،ثم ختمنا البحث برأي بعض العلماء المعاصرين حول مدى دخول تحرير الشعوب المستعمرة في “وفي الرقاب” مع الأدلة والمناقشة والترجيح.
والله أسأل أن يلهمنا الصدق والصواب وهو المستعان.
الأساس الفقهي لهذه المسألة:
بعد البحث والتحري في معاني المصارف الثمانية الواردة في آية الصدقات، وجدنا أن مصرف “وفي الرقاب” يسعفنا للجواب عن هذه المسألة، فوجدنا أن معانيه تعطينا مكاناً خصباً للوصول إلى استنباط الحكم المناسب لها. ولم نلتجئ إلى مصرف “وفي سبيل الله” لأننا لا نرى هذا التوسع الذي ارتآه البعض حتى شمل عندهم كل طرق الخير، ووجوه البر، لأن ذلك يجعل ذكر بقية الأصناف دون فائدة وجدوى، ولذلك نرجح ما رجحه المحققون قديماً وحديثاً في حصر مفهوم؛ وفي سبيل الله “على الجهاد لنصرة دينه وإعلاء كلمته سواء كان بسيف وسنان أم بقلم وبيان، أو بأية وسيلة[3].
فالمصرف العام الذي يشمل دفع الفدية في حالتي الاختطاف والأسر هو قوله تعالى “وفي الرقاب” كما يتبين من البحث، وهذا لا يمنع من دخول ذلك في “وفي سبيل الله” في بعض الحالات الخاصة التي ينصب دفع الفدية لتحقيق هذا الغرض – كما سيتضح إن شاء الله – ثم لما كان الحكم على الشيء فرعاً من تصور وجوده وحقيقته، ولما كان الأصل الشرعي لهذه المسألة يعود إلى قوله تعالى (وفي الرقاب) ضمن آية مصارف الصدقات … وجدنا من الضروري أن نبحث بحثاً مستفيضاً عن معنى (الرقبة) في اللغة ومواردها في القرآن الكريم والسنة المشرفة حتى نكون على بينة عند الكلام عن حكم المسالة.
لفظ الرقبة في اللغة:
الرقبة محركة العنق، أو أصل مؤخره، وقيل أعلاه، وجمعها رقب ورقبات ورقاب، والرقبة: (المملوك)[4]، قال ابن منظور: واعتق رقبة أي نسمة، وفك رقبة: أطلق أسيراً، سميت الجملة باسم العضو لشرفها… قال ابن الأثير: “وقد تكررت الأحاديث في ذكر الرقبة وعتقها وتحريرها وفكها وهي في الأصل: العنق فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان، تسمية للشيء ببعضه…، ومنه قوله: دنه في رقبته، وفي حديث ابن سيرين: (لنا رقاب الأرض) أي نفس الأرض، يعني ما كان من أرض الخراج فهو للمسلمين، ليس لأصحابه الذين كانوا فيه قبل الإسلام شيء وفي حديث بلال:
والركائب المناخه لك رقابهن وما عليهن، أي ذواتهن، وأحمالهن، وفي حديث الخيل: ثم لم ينس حق الله في رقابها وظهورها أراد بحق رقابها الإحسان إليها،وبحق ظهورها الحمل عليها[5] والرقبة من: رقبة يرقبه رقبة ورقباناً أي حفظه، أو انتظره ويقال: ترقبه أي انتظره وارصده والرقيب من أسماء الله تعالى، وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، والرقبي، أن يقول الرجل للرجل وقد وهب له داراً: إن مت قبلي رجعت إلي، وإن مت قبلك فهي لك، قال أبو عبيد: وأصل الرقبى من المراقبة كأن كل واحد منهما إنما يرقب موت صاحبه…[6].
ومن خلال هذا العرض ننتهي إلى أن لفظ “الرقبة” أو “الرقاب” حقيقة في العنق أو أصل مؤخره، وأطلق على العبد والإنسان بكامله مجازاً، ومن هنا فهو ليس علماً للعبد.
لفظ الرقبة في القرآن الكريم:
ورد لفظ “رقبة” في القرآن الكريم ست مرات، منها قوله تعالى “ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة…[7] وقوله تعالى “… من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة”[8]، وكلها قبلها لفظ تحرير “ماعدا مرة واحدة سبقتها لفظ “فك” وهي قوله تعالى “فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة… “[9].
وورد لفظ “الرقاب” ثلاث مرات لم يسبقها لفظ “تحرير” ولا فك هي: قوله تعالى :”ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب…”[10]، وقوله تعالى : “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم[11]، وقوله تعالى “فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب…”[12] .
ويلاحظ من أساليب القرآن الكريم أنها اختلفت من حيث استعمالات هذه الكلمة فاللفظ المفرد “رقبة” فسر بالرقيق، ولذلك استعمل معه لفظ “تحرير” أو “فك” في حين لم يستعملها مع جمعها “الرقاب” كما أن لفظ “الرقاب” في الآية الأخيرة” فضرب الرقاب” لم يرد بها العبد، كما هو الشأن في “الرقاب” في الآيتين الأوليتين، وإنما المراد بها الرقبة الحقيقية للإنسان مطلقاً وهو يعني القتل والذبح، حيث فسرها المفسرون بـ: اضربوا رقابهم[13].
وهذا بلا شك يدل على أن لفظ الرقبة، أو الرقاب وأن شاع استعمالها في العبد ولكنه لم يصل إلى درجة حصره فيه، بل لا يزال يلاحظ فيه معناه الأصلي بل مستعمل فيه كما رأينا، ومن هنا فاستعمال “وفي الرقاب” في معناها العام الشامل للعبد وغيره ليس هناك ما يمنعه، بل الذي يتبادر الذهن إليه هو أن “الرقاب” حقيقة في أصل معناها اللغوي ثم يستعمل في القرين بواسطة قرينة مثل تقديم لفظ “تحرير” أو “فك” عليه، أو سياق الجملة.
الحكمة في استعمال “وفي الرقاب” دون لفظ “تحرير ” أو “فك”:
قد يثور التساؤل حول الحكمة من وجود لفظ “تحرير” أو “فك” مع “رقبة” في عدة “آيات”، وعدم وجوده في “وفي الرقاب” الواردة في القرآن الكريم ثلاث مرات؟
الذي أفهمه من أسلوب القرآن الكريم ومعايشته هو أن هذا الاختلاف ليس اعتباطاً بدون فائدة ، فإذا كان القرآن الكريم لا يختار حرفاً مكان حرف إلا لحكمة فكيف يكون ذلك بدون جدوى، وهي في نظري القاصر – تظهر من خلال أماكن ورود هذه الألفاظ، حيث نرى لفظ “رقبة” مسبوقاً بـ(تحرير) في الآيات التي تبين حكم الكفارات سواء كانت كفارة للقتل الخطأ أو لليمين أو للظهار، وهي لا تجزئ إلا بتحرير رقبة بالكامل – كما لا يخفى – فلا يكفي أن يشارك بجزء من ثمنها وإنما لابد من القيام بإعتاقها فعلاً، فالقاتل أمات نفساً فلابد من إحياء نفس هي بمثابة ميتة حتى يكون ذلك كفارة لتفريطه، أو ذنبه عند من أوجبها في القتل العمد أيضاً[14]. وكذلك الكفارات الأخرى.
وأما لفظ “فك” الوارد في “فك رقبة” فهو يشير إلى عدم اشتراط تحرير رقبة بالكامل، وإنما يتحقق الأجر والثواب بالاشتراك في عتقها، وذلك لأن هذا الفك وارد في نطاق باب التطوع دون وجود ما يلزمه، ومن هنا يكتفي فيه النية الصالحة مع العمل الميسور وعلى الرغم من وعورة الطريق الموصل إلى الجنة، والنجاة من العقبة الخطيرة إلا أن الله تعالى شاء أن تشمل رحمته الواسعة كل من يشارك في عتق رقبة، استشعاراً بخطورة الرق، وعظمة ثواب من يتعاون في إزالته.
وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الفرق بين عتق نسمة، وفك رقبة حيث روي “البراء بن عازب قال: “جاء رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني من النار، فقال: أعتق النسمة، وفك الرقبة “قال يا رسول الله أو ليسا واحداً؟ قال “لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها:[15] ، فعلى هذا فكلمة “فك” أخف من “تحرير” .قال الشوكاني: “وحديث البراء.. فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها..[16].
أما وفي الرقاب فقد وردت في ثلاث آيات إحداهما تتحدث عن حكم اللقاء مع الكفرة وضرب رقابهم، والأخريان تتحدثان عن مصارف الصدقات، وإن كانت الأولى (الواقعة في سورة البقرة 177) عامة في الصدقات المفروضة والمندوبة عند الجمهور، والآية الثانية (الواقعة في سورة التوبة60) في بيان مصارف الصدقة المفروضة، ولكنهما كلتاهما في الصدقات، وعلى هذا ترشد إلى ضرورة وضع جزء من الصدقات في هذه الجهة، ولا تدل بالضرورة على تحقق الإعتاق الكامل بصدقته، فالمتصدق ينفق بعض صدقاته في هذا السبيل وهذه المصلحة، وحينئذ قد تؤدي إلى إعتاق رقيق، وقد لا تؤدي وإنما مع أموال الآخرين يتحقق الغرض المطلوب، وهو في الحالتين مثاب على عمله وقد أجزته صدقته، فعلى هذا فلفظ “وفي الرقاب” عام شامل للإعتاق ومعونة المكاتب، ولذلك فالراجح عند المفسرين هو أنه ليس خاصاً بأحدهما دون الآخر بل إن بعضهم ومعهم جماعة كثيرة من الفقهاء[17]، ذهبوا إلى أن “وفي الرقاب” تدل على معونة الرقبة، ولا يدل على العتق، يقول الجصاص “فثبت أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا وذلك موافق لقوله تعالى “وفي الرقاب” وقال: “فلما قال: وفي الرقاب كان الأولى أن يكون في معونتها[18]، ويقول النووي (وإنما خصصناها أي الرقبة) في الكفارة بالعبد القن بقرينة وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن، وقد قال الله تعالى “فتحرير رقبة” ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا وهي “وفي الرقاب” فحملناه على المكانين، بل هو ذكر أن “وفي الرقاب” يشير إلى جواز صرفه إليهم ولو كان درهماً على عكس” تحرير رقبة” حيث يدل على تحريرها بالكامل[19].
تفسير “وفي الرقاب” بالعتق وحده دون المعونة، أو بالعكس وإن كنت لا أرجحهما، إذ انهما ليس عليهما دليل، حيث يمكن تفسيرها بما يشمل العتق والمعونة دون أن يترتب عليه ما قالوه، إذ أن ذلك مقدر بالإمكان فمن كانت زكاة ماله كثيرة كان بإمكانه أن يشتري منها رقيقاً ويعتقه، وأن يعين المكاتب كما قلنا، ولكن هذه التفسيرات تدعم موقفنا من الفرق بين أسلوبي القرآن، وهما “تحرير رقبة” و “وفي الرقاب” هذا من جانب آخر أن أسلوب (وفي الرقاب) الوارد بدون لفظ “تحرير” أو “فك” الذي يكون قرينه على تحرير الرقيق، أو فكه ،يشير إلى تعميم “الرقاب” لما هو أوسع من فك رقبة العبد لا سيما إذا علمنا بأن لفظ “الرقاب” حقيقة في العنق أو مؤخرة العنق، وأن استعمالها بدون قرينة يدل على إرادة من كانت رقبته مقيدة سواء كانت بذل الرق أو الأسر أو نحو ذلك.
الحكمة في استعمال “وفي الرقاب” بصيغة الجمع:
نلاحظ أن القرآن الكريم عند ذكره للرقبة استعمل أسلوب المفرد في معرض كون “رقبة” من الكفارات في حين استعمل أسلوب الجمع “وفي الرقاب” عند بيانه مصارف الصدقات، وكذلك عند ذكره في معرض الجهاد وقتال المشركين.
فالذي نفهمه هو أن الكفارات أمور شخصية فلكل واحدة منهما تحرير رقبة واحدة يقوم بها صاحبها دون تدخل من الدولة، أما الصدقات فهي من الأمور العامة التي تضطلع بها الدولة والمجتمع الإسلامي ولذلك يجب أن يكون اتجاهها نحو تحرير الرقاب جميعها وتخليص المجتمع من كل عبودية إلا لله تعالى، وكذلك الأمر في الجهاد والقتال حيث تطهير المجتمع الإنساني من المشركين مطلوب فقال تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكن فتنه ويكون الدين كله لله…”(20) فلو تتبعنا أسلوب القرآن لوجدناه يذكر الأمور التي هي من شأن الدولة وواجباتها بصيغة الجمع حتى وإن كانت تتحقق بشخص واحد مثل الأمر بقطع يد السارق (فاقطعوا أيديهما) وغير ذلك، ولذلك كان تعبير “فضرب الرقاب” مناسباً لهذه الحقيقة حيث أورد “الرقاب” جمعاً معرفاً بأل وضمن سياق النفي فيكون للاستغراق، فعلى هذا فالقرآن الكريم يسير إلى أنه يجب على الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي أن يتجها نحو تحقيق هذا الغرض الشريف يتطلع إليه الشارع، كما أن وروده بهذه الصيغة “الرقاب” الدالة على جمع الكثرة دلالة أخرى على تشوق الشارع إلى الإكثار من عتقهم.
الحكمة في العدول عن اللام إلى “في” في قوله “وفي الرقاب” :
رأينا أن القرآن الكريم في الآيتين “من سورة البقرة والتوبة” غير الأسلوب، ففي الآية الأولى قال :”وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب…”[20] حيث لم يقل “وآتى الرقاب” أو العبيد لتحريرهم مثلاً، وكذلك الآية الثانية عدل عن اللام إلى “في” حيث ادخل الأصناف الأربعة الأول، ثم أدخل “في” على “الرقاب” ومن بعدهم من الأصناف الأربعة الأخرى، ولا شك أنه من المستبعد جداً أن يكون هذا التغيير بدون حكمة، ونكتة، ذلك “أن القرآن الكريم لا يضع حرفاً بدل حرف اعتباطاً ولا يغاير بين التعبيرات جزافاً، بل لحكمة يريد التنبيه عليها بكلامه المعجز…”[21]، وقد بين بعض المفسرين هذه الحكمة منهم الزمخشري حيث قال “لم عدل عن اللام إلى “في” من الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن “في” للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة، أو الرق، أو الأسر، وفي الغارمين من الغرم: من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير، أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الغربة عن الأهل والمال[22] وأضاف أحمد بن المنير على ما قاله المزخشري نكتة أخرى وصفها بأنها أدق وأعمق حيث قال “وثم سر اخر هو أظهر وأقرب، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكاً، فكان دخول اللام لائقاً بهم، وإنما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن ضمن مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك الغارمون…[23].
ونحو ذلك ذكر الإمام الفخر الرازي حيث بين بأن الفائدة في هذا التبديل هي أن تلك الأصناف الأربعة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاءوا، وأما “في الرقاب” فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف في ذلك النصيب كيف شاءوا، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم ثم بعد إفاضة في هذا الموضوع لخص الموضوع بقوله “والحاصل أن الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كيفما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة من الصفات التي لأجلها استحقوا الزكاة”[24] ، ومثل ذلك قاله النيسابوري[25]، وقد ذكر ابن قدامة ما يدعم به رأي الرازي فقهياً، حيث قال وأربعة أصناف يأخذون أخذاً مستقراً ولا يراعى حالهم بعد الدفع، وهم الفقراء… وأربعة منهم وهم الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله فإنهم يأخذون أخذ مراعي فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها، وإلا استرجع منهم، والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة، والأولون حصل المقصود بأخذهم…[26].
وقد ذكر السيد رشيد رضا ما قاله الزمخشري وابن المنير، وقسم مصارف الزكاة على ضوئه إلى قسمين: أشخاص، ومصالح فالأول أصناف من الناس يملكونها تمليكاً بالوصف المقتضى للتمليك، عبر عنه بلام الملك والآخر مصالح، وعبر عنه ب: “(في) الظرفية وهو قوله تعالى “وفي الرقاب” … حيث أن فك الرقاب مصلحة عامة في الإسلام وليس فيها تمليك لأشخاص معينين بوصف فيهم…[27] وقبلهم قسم الإمام الطبري المصارف إلى قسمين أحدهما سد خلة المسلمين والثاني: معونة الإسلام وتقويته[28].
الحكمة في استعمال “رقبة” بدلاً عن “العبد”
وقد يثار السؤال حقاً حول أسلوب القرآن الكريم: لماذا استعمل لفظ “رقبة” أو “الرقاب” عند الكلام على مصارف الزكاة، وعند الكلام عن طريق النجاة دون لفظ “العبد” أو المملوك، أو ما ملكت إيمانهم؟، وبعبارة أخرى: لماذا استعملت الكلمات المجازيه للدلالة عليهم مع وجود ألفاظ خاصة بهم وحقيقة فيهم؟
والواقع أنني لم أطلع على أي كتاب أشار إلى ذلك، ولذلك فما أقوله محاولة وليس إجابة. وهو أن لفظ “رقبة” في الأصل حقيقة في العنق ويطلق على الإنسان من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل لشرف هذه الجزء كما قال اللغويون، ومن هنا فحينما يذكر القرآن هؤلاء المملوكين تحت اسم “الرقاب”، أو “الرقبة” ويوجب في الكفارات تحرير رقبة ويخصص سهماً للرقاب فكأنه يشير إلى حقيقة سامية، وهي أن أعز شيء فقده هؤلاء المملوكون هو ملكهم لرقبتهم وحريتهم وإنسانيتهم، ومن هنا فالواجب الملقى على المجتمع الإسلامي ليس الإحسان إليهم وإكرامهم فحسب وإنما تحريرهم وإعادة حريتهم إليهم، فالإحسان إليهم والنظرة إليهم نظرة مساواة من الناحية النظرية واعتبارهم أخوة لنا في الدين وإطعامهم مما نطعم وإلباسهم مما نلبس هي مما امتاز به الإسلام في تشريعه كل ذلك ليس كافياً على الرغم من أهميته، وإنما لابد من تحرير رقابهم، فالتعبير بتحرير الرقبة، أو فكها يشير إلى إزالة هذا الحمل الثقيل من الأوزار والحمل الثقيل على سبيل المعنى، وكما أشار القرآن الكريم حيث قال “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً”[29].
بل صرح القرآن الكريم بأن الأغلال في أعناق الكفرة فقال تعالى “وأن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا تراباً أءنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم…” [30]، قال ابن عطية “يحتمل معنيين :أحدهما الحقيقة، وأنه اخبر عن كون الأغلال في أعناقهم في الآخرة فهي كقوله تعالى “إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل”[31]، ويحتمل أن يكون مجازاً، وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذا تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى، “إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون[32]، وقال بعض الناس الأغلال هنا عبارة عن الأعمال، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم رجح كونها مجازاً وأنها تجري مجرى الطبع والختم[33]، وذكر ابن كثير في تفسير “أعناقهم” في سورة “يس”: أي أنا جعلنا هؤلاء المختوم عليهم بالشقاء كمن جعل في عنقه غل فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه فارتفع رأسه فصار مقمحاً، ولهذا قال تعالى :(فهم مقمحون) والقمح هو الرافع رأسه … قال ابن عباس هو كقوله عز وجل “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك”[34]. يعني بذلك أن أيديه موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير[35].
وأيضاً تشير هذه الآيات الوارد فيها لفظ “الرقاب” أو “تحرير” إلى حقيقة سامية أخرى من حقائق الإسلام وهي: أن الأصل في الإنسان الحرية، وكونه مالكاً للأشياء، وليس مملوكاً، لقوله تعالى : “خلق لكم ما في الأرض جميعا