بسم الله الرحمن الرحيم

دروس وعبر من الهجرة النبوية 

لفضيلة الشيخ علي محي الدين القره داغي

حينما اجتمع سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في أول مشورة لمجلس شورى
يعقده عمر  لتخصيص تاريخ للمسلمين فتناقشوا فيما بينهم فكان رأي بعضهم أن
تكون بداية التاريخ الاسلامي من ي يوم البعثة أي من أول يوم نزل فيه القرآن
الكريم على الرسول الكريم ، ثم بعد ذلك اقترحت مجموعة أخرى أن يكون بداية
التاريخ الاسلامي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعد المداولات
والمناقشات وصلوا الى أن بداية التاريخ الاسلامي يبدأ من يوم الهجرة ،
حينما هاجر النبي الكريم وصحبه من مكة المكرمة الى المدينة المنورة.

لقد اختاروا هذا التأريخ الاسلامي وأرخت به كل الأحداث والنوازل التي حصلت
في التاريخ الاسلامي لماذا يا ترى؟

لأنهم وجدوا أن هذا التار يخ هو بداية الأمة الاسلامية بالمعنى الحقيقي
لمعنى الامة، حيث تحققت للامة الرسالة والدستور وتحققت لها كذلك  الأرض
والمكان ، والقيادة والجيش والادارة. فأصبح هذا التقويم الهجري  هو رمزا
للمسلمين وحالة تميز لتاريخنا عن تاريخ غيرنا وفي ذلك أيها الاخوة الأحبة
اثبات للهوية الاسلامية وأن الأمة لابد من أن تكون لها هويتها وأن تعتز بها
على مر الأزمان والعصور عوض أن تتبع غيرها وتتبع سننهم شبرا بشبر أو ذراع
بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه وهذا ما نراه للأسف الشديد في بعض
الاحتفالات بأعياد الملاد وغير ذلك. 

فإذا تاريخنا الاسلامي يبدأ من تاريخ هذه الهجرة المباركة التي هاجر فيها
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعدما أوذي وصحبه الكرام إيذاءا شديدا لا
يمكن أن يتحمله أي إنسان إلا إذا كان متمسكا بحبل الله تعالى فصبروا على ما
أوذو حتى أتاهم النصر المبين وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن
لبعض أصحابه قبل ذلك بالهجرة الى الحبشة مرتين الأولى في السنة الخامسة
للبعثة والثانية في السادسة ثم حينما أذن الله سبحانه وتعالى بالهجرة
الاساسية قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة الى هذه الأرض المباركة
أرض المدينة المنورة التي كان فيها رجال آثروا فيها اخوانهم المهاجرين على
أنفسهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى:

 << والذين
تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما
أوتوا ويأثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة  ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون
>>.

لقد شهد الله تعالى لهم بهذه الشهادة العظمى بأنهم كانوا يؤثرون إخوانهم
على أنفسهم ومن هنا تكونت الأمة من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم
بإحسان الى يوم الدين.

إن في هذه الهجرة المباركة أيها الاخوة الاحبة دروس كثيرة ولكنني سأقتصر
على عدد منها وسأوجزها في كلمات معدودات:

الكلمة الأولى: إن أول ما يستفاد من حادثة الهجرة المباركة هو
التنظيم والتخطيط، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يهاجر لم
يهاجر دون خطة محكمة رغم أن الله سبحانه وتعالى كان يرعاه ، وأن الله
سبحانه وتعالى تكفل بحفظه وبالرغم من كل هذا فقد أخذ بكل الأسباب فخطط أحسن
التخطيط حتى يكون ذلك قدوة لنا في  كل أمورنا الفر دية والجماعية القريبة
والبعيدة . فقد مهد صلى الله عليه وسلم قبل سفره الى المدينة  فأمر أبابكر
رضي اله عنه أن يشتري  راحلتين واختار في تلك الليلة علي رضي الله عنه أن
ينام في فراشه عليه الصلاة والسلام، كما اختار أحد المهرة في معرفة الطريق
ليكون لهم دليلا في سفرهم كما اختار عليه الصلاة والسلام شخصا  يمدهم
بالزاد والطعام كما كلف أحد الرعاة بأن يمربأغنامه بعد مروره وصاحبه لتخفي
آثار أقدامهم حتى لا  تقتفيه قريش ثم عند خروجه من مكة صلى الله عليه وسلم
اتجه في الاتجاه المعاكس للطريق المعروف بين مكة والمدينة فاتجه صوب غار
ثور.

إن كل هذا التخطيط المحكم وهذه الخطوات الدقيقة في  الاعداد لهذا السفر هي
دروس لهذه الأمة حتى تخطط في الأمور كلها وتبتعد عن كل مظاهر الفوضى في
حياتها والتي وللأسف الشديد أصبحت هي الميزة الغالبة في حالة هذه الأمة.

الكلمة الثانية: كذلك أيها الاخوة يستفاد من هذه الهجرة  أهمية
الأخوة الإيمانية التي حققها الاسلام بين جميع القبائل العربية على الرغم
من حالة التنافر والتقاتل الذي كانت تعيشه في ذلك الوقت مثل ماكانت عليه
الحال بين الأوس والخزرج في المدينة فقد خرجا للتو من حرب دامت لسنوات
عديدة بينهم انتهت قبل خمس سنوات فقط من الهجرة .

فهذا وإن دل على شيئ فهو يدل على أن هذه الرابطة العقائدية الايمانية هي
وحدها التي بإمكانها أن تجمع هذه الأمة.

الكلمة الثالثة: كما يستفاد من الهجرة أيها الاخوة الكرام أن هذه
الأخوة الإيمانية ليست مجرد كلمة تقال ولكنها حقيقة لابد من أن يضحي من
أجلها المؤمن بماله ووقته وبدنه و بكل ما آتاه الله سبحانه وتعالى  في
سبيلها فكلمة الأخوة ليست كلمة أو خطبة أو شعرا فهي لابد أن تكون حقيقة ،
والحقيقة لابد أن يكون لها آثار من مثل المحبة والإيثار وهذا ما تجسد من
خلال المؤاخات التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين
والأنصار حتى بلغت درجة الأخوة الى درجة التوريث الى أن نزلت آيات التوريث
التي بينت الفرائض فنسخت هذا الأمر هذه إذا أيها الاخوة الأحبة هي الأخوة
الحقيقية  التي يجسدها الاسلام من خلال هذه الهجرة المباركة.

الكلمة الرابعة: وكذلك يستفاد من هذه الهجرة المباركة أن الله
سبحانه وتعالى ينصر رسله وينصر دينه مهما كانت المكائد التي يحيكها أعداء
هذا الدين  فيقول الله تعالى:

<<إلا
تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفرو ثاني اثنين إذ هما في الغار  إذ يقول
لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل
كلمة الذين كفرو السفلى وكلمة الله هي العليا >>

: دائما كلمة الله سبحانه وتعالى هي العليا، فلنعش أيها الاخوة الأحبة هذه
المعاني الجميلة لهذه الهجرة المباركة ولتزدد فينا المحبة والوئام ولتزدد
فينا كذلك النصرة والأخوة الحقيقية لصالح ديننا ولصالح وطننا و أمتنا.