أيها الإخوة المؤمنون
يتخذ الإسلام العظيم منهجاً عظيماً في تربية المؤمنين، حتى يهيئهم ليكونوا خير أمة أخرجت للناس، وليكونوا رحمة لأنفسهم وأسرهم، ثم يشاركوا في توصيل الرحمة للعالم أجمع.
هذا المنهج العظيم الذي انفرد به الإسلام في تربية الأمة، هو منهج الجمع أو الشفع والزوج، بين الظاهر والباطن، وبين الشكل والمعنى، وبين الظاهر والمبنى، وبين العبارات والمقاصد، بحيث لا يبقى نشاط من أنشطة الإنسان، ولا حركة من حركاته إلا ويشمله هذا المنهج الزوجي الذي يقوم على الطرفين، ولا يقوم على أحادية الرؤية، أو أحادية التطبيق، والعلاج، وإنما يقوم على ثنائية الرؤية، والعلاج، والعمل، والتطبيق، لأن هذه الشريعة نزلت لهذا الإنسان الذي يشمل على هذين الجانبين الروحي والمادي، والجانب الظاهري والباطني.
في حين أن بقية المناهج الدينية التي وصلتنا – ولا نتحدث عما كانت عليه الأديان السابقة – والتي تتبناه هذه المناهج الحالية تقوم على جانب واحد، وأحادية الرؤية، والمنهج، والعمل، والعلاج، فإما أن يعالج الجانب المادي كما هو الحال في الفلسلفة المادية والحضارة الغربية، أو أن يعالج الجانب الروحي فقط كما هو الحال في بعض الأديان أو المذاهب التي تقوم على الرهبنة والابتعاد عن الحياة الدنيا، أو الأمر بالعكس.
وهذا المنهج الثنائي، مطبق في كل العبادات التي يراد بها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنها تتضمن هذين الجانبين، الجانب الظاهري والباطني، والجانب المادي والمعنوي، والجانب الحاضر والمستقبل، وكل هذه الجوانب المتعددة المتتنوعة الزوجية يعالجها القرآن الكريم في كل العبادات.
فعلى سبيل المثال في الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، والذي شارك فيه عدد كبير هذا العام من المسلمين من العالم كله، حتى تجاوز مليونين، وهكذا الأعوام قد يصل إلى ثلاثة ملايين. والإسلام من خلال هذه العبادة – المفروض منها حسب الظاهر- أن تكون عبادة خالصة لله سبحانه وتعالى، بعيدة عن أي جانب آخر، ولكن الإسلام وهو يركز على هذا الجانب، وهي العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى، ولكنه يربط هذه العبادة بعلاج هاتين الحالتين، بعلاج الداخل والخارج، مع أن الحج في مظاهره ومعالمه ومعظم أركانه أعمال ظاهرية، مشاعل وشعائر واضحة جداً، وفيها إن صح التعبير الشكليات التي لا يجوز تجاوزها، بدأ من الإحرام ثم الطواف ثم إلى بقية الأركان، كل هذه الأعمال يركز عليها القرآن الكريم لتربية المسلم على العناية بالظاهر والباطن، ويسمي القرآن الجانب الباطني – الجانب العبودي – بالحرمات، ويسمي الجوانب الطقوسية العبادية بالشعائر، وكلاهما مطلوب، ثم يربطهما ربطاً محكاً بتوجيه المسلم حتى يكون محققاً لحسنتي وخيري الدنيا والآخرة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في الجانب الأول وهو جانب التقوى بعد أن يتحدث عن أهمية الأضاحي وعن أهمية الهدي وتعظيمها وجمالها وسمنها، حتى لا ننسى في خضم المظاهر وخضم الشكليات الجانب الأساسي والبعد الروحي والمعنوي وهو تقوى الله (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ) فالمطلوب هو تحقيق التقوى، وهو البعد المعنوي والحقيقي في قلب كل حاج ومسلم، لأنه إذا تحققت التقوى على حقيقتها فلا يمكن أن يقترب الإنسان من الفواحش، ولا يمكن أن يقترب مما يغضب الله سبحانه وتعالى، لأن التقوى لغةً: تقيك من المعاصي، واصطلاحاً: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وتركيزاً على هاذين الجانبين يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحج حينما يتحدث عن نداء سيدنا إبراهيم وعن مقاصد الحج (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) وبعد كل ذلك يعود إلى التقوى حتى لا ننسى في خضم الطواف حول الكعبة وبقية أركان الحج يعيدنا إلى نفس البعد والدائرة (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ) والحرمات هي حدود الله سبحانه وتعالى في المحرمات والواجبات والأركان. ثم يدخلنا مرة أخرى في البعد المادي، ثم يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى تحقيقاً لحرمات الله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) هذه الحرمات هي أن تبتعد عن عبادة غير الله وهذه الحرمات هي أن تتخلق بأخلاق رسول الله فيذكر أمرين للإشارة إلى البعد العقدي (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ويربط هذا التوحيد أو الابتعاد عن الشرك ربطاً محكماً وبنفس المستوى -على الرغم من خطورة العقيدة – بالجانب الأخلاقي (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) فكما أمر الله وبنفس الأسلوب بالاجتناب عن الأوثان على المرء أن يبتعد عن رجس الأخلاق السيئة التي من أهمها بالنسبة للسان قول الزور أو شهادة الزور أو أي شيء فيه تزوير . ثم يتحدث القرآن عن خطورة الشرك لتحقيق هذا المطلب في النفس وهو الجانب المعنوي والروحي والسمو العقدي والداخلي بالارتباط بالله فيتحدث عن خطورة الشرك، ويبين أن خطورة الشرك يترتب عليه أن يصبح الإنسان بدون معين، بدون من يعاونه ويستعين به، فيقول الله سبحانه وتعالى ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) كلاهما خطر ومهلكة، ثم بعد هذا التركيز على الجانب الداخلي والبعد المعنوي والأساسي وهو العقيدة والأخلاق يعود مرة أخرى ويربطنا بالشعائر والمشاعر (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) فإن كان تعظيم الشعائر لله سبحانه وتعالى وليس للرياء ولا للجاه فإنها من تقوى القلوب، فربطت الظاهر بالباطن وربطت الشعائر بالحرمات والشعائر بالمشاعر الداخلية التي تنبثق من القلب والداخل، ثم بعد ذلك حينما يتحدث عن الشعائر حتى يدمج هذه المسألة مرة أخرى ( لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) لكم في هذه الشعائر منافع ثم محلها إلى البيت العتيق ثم يقول (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا) فيربط هنا الفرد بالجماعة فكل شيء ثنائية التصور، فأنت كفرد جزء من هذه الأمة، وهذه الأمة لها مشاعر ولها هوية، ولذلك يجب أن تحترم هذه الهوية وتعيش فيها وتدافع عنها وتحقق أهداف هذه الهوية، ولايمكن أن يكون للإنسان قيمة أساسية إذا لم يكن لهذا الإنسان في داخل الأمة المحترمة تحترم نفسها وتحترم مناسكها وشعائرها وتدافع عن هويتها
ولذلك حينما أصبحت الأمة متنفرقة، وكل واحد يبحث عن مصلحته، انظر كيف وصل الهوان والذل إلى هذه الحالة التي نحن فيها، وفي كل الأماكن في اليمن والعراق وسوريا وفي مصر لأنه ليس هناك أمة تدافع عنك.
انظر إلى ما تفعله اليهود الصهاينة بالقدس و لم يكونوا ليجرؤوا أن يفعلوا مثل ما يفعلون اليوم لو ماكانت هذه الأمة مشغولة، أو ما كانت معظم قادة هذه الأمة يكيديون ويمكرون بعضهم ضد بعض، بل ينفق بعضهم في سبيل إضعاف الآخرين، وفي سبيل مصالح موهومة حققها أو زينها لهم الشيطان، شيطان الإنس المتمثل بالصهاينة وكذلك المشروع الأمريكي والصهيوني الذي يقوم على تمزيق هذه الأمة.
ثم يربطنا القرآن مرة أخرى بالعودة إلى ذكر الله سبحانه وتعالى من خلال بيان أن هؤلاء الذين يجمعون بين الظاهر والباطن وبين الحرمات والشعائر هم (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) حوَّل القرآن الكريم هذه المعاني وهذه الطاقات المعنوية إلى حقائق على الأرض وحقائق للإنسان حيث ينفذها.
هذا هو الإسلام الذي يربيك على هذا المنهج المتكامل الذي يتعلق بداخلك فيربطك بالله سبحانه وتعالى ويربط ظاهرك أيضاً بهذا الداخل ليكون هذا الظاهر مطيعاً لله سبحانه وتعالى في دائرة الأمة الإسلامية التي كلما قوي أفرادها قويت هذه الأمة وما قوة الأمة إلا بقوة أفرادها.
فإذا كان هذا المنهج شاملاً ومطلوباً من كل المسلمين أن ينفذوه بهذا الشكل بين الابتعاد عن رجس الأوثان مع الابتعاد عن رجس الأخلاق السيئة المذمومة وأن يجمعوا بين المشاعر والشعائر وأن يجمعوا بينها وبين الحرمات التي تشمل كل ما أمر الله به ونهاه.
فإذا كان ذلك شاملاً لكل الأمة فإذا عاد إخواننا الحجاج إلى البلاد فهم مطالبون بهذه الحقيقة على أنفسهم بأن تتغير أحوالهم وأن لا يكتفوا بما فعلوا وما هذه المشاعر والشعائر إلا وسيلة أساسية لإبعداهم عن الحرمات تماماً لذلك يقول الرسول مشيراً إلى هذه الشمولية حتى لا يتصوروا بأن القضية هي قضية مكان أو زمن فقال ( إن دمائكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) ولا يجوز أن يختلف حالنا حينما نكون في الحج عما نحن فيه بعد الحج، لذلك فسر كثير من السلف الصالح الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة، قالوا: الحج المبرور هو الذي تأثر به صاحبه وتغيرت حالته إلى حالة حسنة أو حالة أحسن وهذا ما نطلبه من الله لأنفسنا جميعاً ولإخواننا الحجاج.
الخطبة الثانية
حينما نقرأ أو نفكر في هذا المنهج ثم نعرضه على أنفسنا كم نرى بوناً شاسعاً وبعداً كبيراً بين ما يريده الله سبحانه وتعالى منا وبين ما نحن عليه في معظم الجوانب، لأنه إن كنا أفراداً صالحين فإن ذلك يعود بالنفع علينا وإن كنا من الذين يخدمون أمتنا فإن صلاح الأمة وقوة الأمة ترجع إلينا، فكوننا من الأمة نعمة من الله، منّ الله علينا بهذه الأمة ، وبيّن بأن الأمة واحدة ولا يجوز أن تكون أمة مختلفة ومتفرقة ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .
فما يحدث اليوم كله بسبب ما تفعله أيادينا وما تفكره بعض عقولنا من المصالح الموهومة التي يزينها الشيطان الأكبر الاستعمار والمستكبرون الذين تدور مصالحهم وقوتهم على فرقتنا دائماً، كما قال غارودي: إن قوة الغرب استمدت بقاءها إلى يومنا هذا أنها تأخذ خيرات وثروات قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
هؤلاء لا نلومهم، ولكن أين نحن؟ اين أمتنا؟ فهي تخرب بيوتها بأيديها! ولا يمكن لأي عاقل فيما يفكر في الذي يحدث الآن في اليمن ودعم الحوثيين من قبل بعض الدول، ومن تحطيم القوى العسكرية و الديمقراطية في مصر أيضاً بأموال العرب والمسلمين!
كيف لواحد يتعاون مع من يتربص به لأجل عدو مرتقب أو عدو متخيل ولا يمكن أن يتصور أو أن يقبله العقل ناهيك الشرع إلا أن يكون هؤلاء مثل الأحجار على رقعة الشطرنج يحركها هؤلاء الأعداء، ويكون لهم حماية لبعض مصالحهم المالية والجاهية.
حال الأمة في شدة واليوم إسرائيل تتجرأ لأول مرة بأن تقسم بيت المقدس والأقصى تقسيماً مكانياً وتترك مكاناً واحداً للمسلمين من بين أكثر من 44 ألف دونم، ثم زمانياً ويخصص لأنفسهم أياماً لا يجوز للمسلمين أن يقتربوا من المسجد الأقصى ونحن ساكتون والأمة العربية ب 22 دولة ساكنة والأمة الإسلامية ب 57 دولة ساكتة ولا تفعل شيئاً مع أن ما يفعله إسرائيل مخالف أيضاً لقرارات الأمم المتحدة، وقد جيشوا الجيوش لعراق بزعمهم أن العراق خالف قرارات الأمم المتحدة، ولم يفعلوا شيئاً مع أن إسرائيل خالفت مئات القرارات ولكن هناك قوة وهنا ضعف في الأمة.
وسوريا اليوم تدمر مرتين فما لم تدمره براميل بشار الأسد تدمره الطائرات وخاصة حول قضايا المصانع والنفط وما أشبه ذلك، وليس لنا إلا أن نتضرع إلى الله وأن يهدي الخطائين ومن ارتكبوا الخطايا أن يعودوا إلى الحق وأن يعيد إلى هذه الأمة قوتها.