أيها الإخوة المؤمنون تحدثت في الخطبة السابقة عن تنظيم الأوقات والأعمال لما لهما من دور عظيم إيجابي في بناء الفرد وتكوين المجتمع، وسأتحدث اليوم بإذن الله تعالى عن تنظيم الفكر، البذي هو الأساس للحياة، وهو المحرك لإرادة الإنسان، وهو الذي يدفعه نحو الخير ونحو الشر، وهو المنبع والمفجر للخيرات وكذلك للشرور والسيئات. ولأهمية تنظيم الفكر أولى القرآن الكريم عناية قصوى في الحديث عنه، حيث جاءت الآيات التي تتحدث عن معاني التعقل والتدبر والفكر والنظر حوالي قريب من ألف آية، سبعمائة وخمسون منها تتحدث بشكل خاص عن التعقل والتدبر والنظر والفكر، بينما تحدث القرآن الكريم عن الأحكام التشريعية التكليفية في حوالي ستمائة آية. وما ذلك إلا دليل على أهمية تنظيم الفكر في بناء الفرد والأمة، وتكوين المجتمعات الراقية، وبناء الحضارات السامية، لأن الفرد أو الأمة إذا فقدا خاصية التفكير المنظم، ونأيا عن التفكير السليم لعاشا في فوضى هدامة لا قرار لها، ولانعدم أساس حياتهما، ولسارا نحو مجهول لا يدرك كنهه، ولا تعرف مآلاته. إذا لم يكن الفكر سليماً ينظر في الآثار والنتائج والأهداف والمآلات، يفقد الإنسان الشعور بالمسؤولية، وينعدم إحساسه تجاه تحمل مسؤولية تصرفاته وأعماله، وبخاصة مسؤولية الكلمة، وكلما كان الفكر منظماً والتفكير سليماً عمل الإنسان ضمن تصورات وتراكيب أعماله وتصرفاته، وتحمل المسؤولية نحوها، وعاش حياة الاستقرار، لأنه ضمن لحياته مآلات طيبة، وآثار رائعة، وأهدافاً سامية، من خلال النظر والتدبر والتعقل والفكر المنظم السليم، ولأنه طبق ما يسمى في اصطلاح علماء الأصول مبدأ فقه المآلات. وما يلاحظ اليوم على حياة معظم الأفراد والجماعات، والمشاهد الفوضوية اليومية التي تتكرر على مرآى ومسمع العالم، التي تبين أن أمتنا تسير في ركب فوضوي لا يعرف عن الحضارة إلا الاسم، ولا يدرك في معارج الرقي إلا الرسم، دليل على أنها فقدت الفكر السليم المنظم، الذي يُقَوِّم ما يعرقل سيرها، و الذي يأخذ بيدها نحو ريادة العالم بخطى واثقة لا يوهنها الوهن، والذي ينظم لها حالها ويبشرها بخير مآلها. وما زلت أذكر سؤالاً طرحته ـــ منذ نعومة أظفاري ــــ على أستاذ كبير متخصص في علم الحديد والكون، قلت له: أستاذي، لم يقوم المغناطيس بعملية الجذب، بينما لا يقوم بذلك الحديد، رغم أن كلاهما مكون من الحديد، فضحك الأستاذ، وأعجب بالسؤال، وقال: نعم السؤال يا ولدي، إن المغناطيس يقوم بالجذب والسحب لأن شعيراته منظمة، إذ كل شعيراته الإيجابية متجهة نحو جهة واحدة، وكذلك شعيراته السلبية، ولما نظمت شعيراته أصبحت لها جاذبية، وأصبحت لها قوة، تجذب الحديد بأضعاف حجمها بينما شعيرات الحديد العادي غير منتظمة، فهو يسحب. أمتنا اليوم كالحديد، وبالتالي فهي تسحب، تسحبها أمريكا متى ما أرادت، وتسحبها روسيا متى ما شاءت، وتسحبها المصالح متى هبت رياحها، والأمة في سبات، لا تدري أين مصلحتها، لأنها امة غير منتظمة على رغم من وجود ما يقرب من سدس آيات القرآن الكريم، يدور محورها حول قضايا التفكر والتعقل. الوحي مهم جداً في تكوين الأمة، والدعوة إلى الفكر المنظم لا يعني الاستغناء عن الوحي، إذ الوحي نفسه هو الآمر بالتعقل والتدبر، وهو الذي بين لنا أن ميزة الإنسان الوحيدة التي يمتاز بها عن ما سواه من الكائنات هي التعقل والتدبر، لأنه من خلال التعقل المنظم والتفكير السليم يصل المرء إلى الإيمان بالله تعالى، فليس هناك فارق بين العقل والإيمان. إن الإسلام يأمر أتباعه بالتعقل والتفكر؛ حتى يكون ذلك مطية إلى الإيمان الثابت والعقيدة الراسخة { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، حينما يكون هناك تأمل في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يأتي الإذعان والإيمان { ربنا ما خلقت هذا باطلاً }. فالتفكر يوصلنا إلى الإيمان بالله تعالى، ويوصلنا إلى بر الأمن وشاطئ الأمان، بتوجيه من الوحي الي نزل من عند الله تعالى، ولا يستقل الفكر ولا العقل بنفسه، وإنما يستظل بظلال الوحي، ويهتدي بنوره، ويأخذ أضواءه من أضوائه. حينما يكون الفكر كما أراده الله تعالى تتحقق حسنة الدنيا والآخرة، وإذا كان الفكر غير سليم، يكون التقدير غير سليم، ولقد حدثنا القرآن الكريم عن الوليد بن المغيرة، الذي رق للقرآن الكريم حين سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أساء التفكير والتقدير حين آوى إلى أبي جهل، فزين له الباطل، وحرضه على السب والأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إنه فكر تفكيراً غير سليم، وقدّر تقدير غير سليم، بناء على ذلك التفكير غير السليم، فكانت النتيجة خزي الدنيا وعذاب الآخرة، حكى الله تعالى ذلك قائلاً: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } أي لعن نتيجة تفكره غير السليم، وقتل نتيجة تقديره غير السليم. لربما يفكر المرء تفكيراً غير سليم، ولكن يجب عليه أن لا يقدر تقديراً غير سليم بناء على تفكيره ذلك، بل عليه أن يرجع إلى نفسه، ويحاسبها، ويرجع إلى التفكير السليم حتى يصل إلى التقدير السليم. ما هو التفكير غير السليم، إنه أن يفكر المرء في مصلحة نفسه، وبقاء جاهه، وحماية مكانته، دون التفكر في مصالح الأمة والشعوب، وبالتالي يقدر تقديراً غير سليم، كأن يفكر أن استمراره في وظيفته وبقاءه في منصبه مرهون برضى مديره أو المسؤول عنه، فيقدر بناء على ذلك أن هلا بد من المجاملة والنفاق؛ حفاظاً على ذلك. بئس التفكير الذي يردي صاحبه، ويحط من قدره وكرامته، ويرده إلى أسفل سافلين، ليس هناك شيء أعز على الإنسان من عزته وكرامته، ومن أهدرهما في سبيل المال والجاه والنفوذ عاش ذليلاً غير ناجح، غير موفق، غير سعيد، ما قيمة المال إذا أهينت الكرامة؟ وما قيمة الجاه إذا كان ممزوجاً بالذل، وما قيمة النفوذ إذا كان قرين عبودية الطغاة؟ كل ذلك يأتي بذل الدنيا وهوان الآخرة. تبنى الأمة من خلال التفكير السليم المنظم، والتقديرات السليمة، ونحن اليوم محتاجون إلى إعادة ما يريده الله تعالى في مجال الحضارة والبناء، ومحتاجون إلى إعادة النظر في حياتنا، ونسأل أنفسنا عن أسباب تخلفنا عن الحضارات، وعن أسباب الفوضى التي تجتاح جوانب حياتنا، فيجلب عليها الجفاف، لِمَ لا ننجح في أمورنا دنيا ولا أخرى؟ أمورنا الدينية أصبحت رموزاً وطقوساً تؤدى، وخلت من معانيها التي شُرعت من أجلها، فصلاة معظمنا لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، والزكاة لا تصفي نفوسهم ولا تطهرها، والصوم لا يصل بهم إلى درجة المتقين، والحج لا ينمي أخلاقهم فلا يزالون في رفث وفسوق وجدال بعد أدائه، لا وفاء بالعقود، ولا احترام للعهود، ولا صون لحقوق الناس، هكذا معظمنا في أمور الدين. أما في مجال أمور الدنيا فنحن متفرقون، ممزقون، لا قيمة لنا بين الأمم، عاد إلينا الاحتلال بخيله ورجله، ودخل بلادنا من أوسع أبوابها، أين كرامتنا؟ وأين عزتنا؟ منحت أمريكا لدولة فلبين ستمائة مليون دولار بشرط أن تبقى القاعدة الحربية على أراضيها فرفضت فلبين ولم ترض بمنحة أمريكا، لتحافظ على كرامتها، وتصون عزتها. إن الله تعالى لا يرضى لهذه الأمة هذا الحال، فعليها أن تعود إلى الله، وأن تعيد النظر في تفكيرها وتقديرها، عليها أن تلتزم بالوحي، وتلتزم بمنهج العقل والتدبر السليم، التفكير الفردي والاستراتيجي. التفكير في الإسلام يتكون من الآتي: أي قضية توضع بين يديك، عليك أن تتصوره وتتدبره، وتفهمه، وتنظر في مركباته وأجزائه، وظروفه الزمانية والمكانية، ومآلاته وأهدافه، ونتائجه من خلال العصف الذهني. ثم تضع له البرامج العلمية الناجحة كل بمقداره، وتحدد له الموارد، حتى يكون التفكير استراتيجياً يؤدي إلى تحقيق فكر منظم. الخطبة الثانية إن الإسلام نظم لنا جوانب حياتنا كلها، حتى الخراءة، ولقد سألت اليهود سلمان الفارسي: أنظم لكم محمد ذلك، فقال: إنه نظم لنا الحكم، ونظم الأمة على منهج حياة، كيف تحيا؟ وكيف تعيش حياة سليمة آمنة مستقرة. هذا هو الإسلام، علينا أن ننظم انفسنا، وأهلنا، وأولادنا، لعل الله يجعلهم الجيل الذي يتحقق الخير على يده للأمة.