أيها لإخوة المؤمنون
إذا تدبرنا القرآن الكريم، وتلونا آياته بفهم وإتقان، توصلنا إلى أن القرآن الكريم، هذا الكتاب الخالد، العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل العزيز الحكيم، وجدناه يسجل لنا أحوال الأمم السابقة كلها، من انتصارات، وهزائم، ويوضح ببيان لا غموض فيه أن الباطل له جولات وصولات، ولكن العاقبة هي للمتقين، والنهاية هي إهلاك الطواغيت، { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
تلك سنن الله تعالى في عباده، هذه السنن الماضية القاضية الحاكمة، التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، ولكن الناس يستعجلون، ولا يأخذون بسنن الله تعالى، ويظنون أن النصر يأتي بمجرد التوجه إلى الله تعالى والصلاة وغيرهما من العبادات، نعم لا بد من التوجه إلى الله تعالى والدعاء، وهذا أمر عظيم، ولكن لا بد مع كل ذلك من الأخذ بالأسباب، أسباب الانتصار وسننه، والبعد عن أسباب الهزيمة.
لهذه الغاية، يقص علينا القرآن الكريم قصص الأمم السابقة بدءاً من سيدنا نوح عليه السلام، كيف عاش مع قومه؟ وكيف صبر على أذاهم؟ وكيف تحمل طغيانهم، ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم جاءه النصر من قبل الله تعالى، فأنجاه ومن آمن به في السفينة، وأغرق بعد الباقين.
وكذلك ما كان من خبر فرعون مع بني إسرائيل، حيث بغى وطغى عليهم، حتى أداه طغيانه إلى ادعاء الربوبية والألوهية حيث نظر إلى ما في ملكه من الأنهار الجارية، والقصور المشيدة، ولم يجد من قومه من يأخذ على يديه، فقال: { أنا ربكم الأعلى } { وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }، فصبر بنو إسرائيل على أذى فرعون وتماديه، وتحملوا ألوان العذاب والاضطهاد إلى أن جاء وعد الله لعباده المتقين { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ }.
وكذلك أهلك الله قارون، بسبب بغيه على المستضعفين من بني إسرائيل { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ }.
تلك سنة الله تعالى التي تقوم على الأخذ بالأسباب مع التوكل الكامل والاعتماد الحقيقي على الله تعالى، والسير على الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى لعباده المؤمنين، وهذه هي عوامل النصر المسطرة في الكتاب العزيز.
وفي عهد النبوة والرسالة، وفي غزوة الأحزاب، حيث تألب العدو وتآلفت القبائل العربية، قريش وغطفان، وأحاطت بالمدينة المنورة، وقد عقدت العزم على اجتثاث دولة الإسلام، وإبادة المسلمين، وروج المنافقون الأراجيف في المدينة ليضعفوا من شوكة المسلمين، وقالوا: { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } من أين يأتي النصر وهذه الجموع قد أقبلت علينا بخيلها ورجلها من كل حدب وصوب، ونقضت اليهود عهودها، وخانت بنود الوثيقة المبرمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيقن الجميع أن دين الإسلام منتهٍ، وقد وصلت دولته إلى الرمق الأخير، غير أن المؤمنين كانوا على ثقة بوعد الله تعالى، وكانوا معتمدين على الله تعالى بعد الأخذ بأسباب الانتصار وعوامله { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } وكان منهم من صدق الله تعالى ما وعده عليه فاستشهد، ومنهم من بقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }.
بهذا الإيمان وبهذه العقيدة، وقف المسلمون في وجه أكبر القوى المعادية في ذلك العصر، في وجه الصهيونية، وفي وجه الكفر، ولم يقعد النبي صلى الله عليه وسلم مكتوف الأيدي في هذا الموقف العصيب، بل شارك أصحابه في حفر الخندق، يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: { ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي صخرة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني ، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي ، نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى . قال : ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال : ” أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ ” قال : قلت : نعم . قال : ” أما الأولى ، فإن الله فتح علي بها اليمن ، وأما الثانية ، فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب ، وأما الثالثة ، فإن الله فتح علي بها المشرق }.
هذا هو الإيمان الذي يجب التشبث به، وهذا الإيمان الذي يجب أن يكون فوق أي اعتبار، وهذا ما يريده الله تعالى لنا في سورة الفجر، حيث يذكر لنا حقيقتين لا ينبغي أن نغفل عنهما، إيماناً به وتصديقاً، من خلال العقل السليم، والتواتر التاريخي الذي لا يخالطه شك { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } للوصول إلى هذا الإيمان اليقيني الذي لا يعتريه شك ولا ريب، وهو أن الله تعالى بالمرصاد لكل المنافقين والكافرين والطواغيت، في كل عصر وزمان، وما هذه الابتلاءات إلا تأديب للأمة، لعلها ترجع إلى الله تعالى، و تؤمن به الإيمان الحق، ولا تعتمد على سواه في تحقيق العزة ونيل الكرامة.
في غزوة أحد، حين تسأل الناس عن سبب الانكسار، { أنى هذا }؟ فجاء الجواب { قل هو من عند أنفسكم } إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عن جبل الرماة؛ طلباً للغنائم، فأدبهم الله تعالى بهذا الشر الذي أصابهم، حيث قتل سبعون منهم وأسر آخرون، لأنهم خالفوا أمراً واحداً من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كيف بنا ونحن أمة متفرقة، أمة لا نعرف للتوحيد طريقاً، وقد بين الله تعالى أن الأمة المتفرقة أمة فاشلة على كل الأصعدة، { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.
فالثوار في سورية لم يجتمعوا منذ ست سنوات على كلمة سواء، ولا اجتمعت الأمة التي بلغت ملياراً وسبعمائة مليون لم على كلمة سواء، لعل ما جرى في حلب وغيرها يكون سبب التوحيد، وباعثاً على التآلف والتكاتف والتناصر.
نصيحتنا ودعاؤنا وتضرعنا إلى الله تعالى في هذا اليوم المبارك، أن يجمع المجاهدين في الداخل السوري على كلمة واحدة، وفي صف واحد ، وتحت قيادة واحدة، وكذلك أن يجمع الأمة العربية والإسلامية ليكون لها مشروعها الموحد، ولتعود إليها الكرامة المسلوبة، ولتنعم بخيراتها المنهوبة، ولتتخذ لها مشروعاً موحداً ضد المشاريع الكبرى التي تعصف بلأمة من كل طرف.
لكل الأمم من حولنا مشاريع خاصة تخدم مصالحها، وأحياناً نكون نحن وقود تلك المشاريع، إلا الأمة العربية والإسلامية فهي لا تملك مشروعاً تسعى إلى تحقيقه، ومشاريعها هي كيف يكيد بعضهم لبعض، وكيف يتآمر بعضهم على بعض، وكيف يؤجج بعضهم نيران الحقد البغضاء على بعض، فأي نصر سيتحقق بمشروع من هذا القبيل؟ فالله تعالى لا يؤيد الأمة المتنازعة الفاشلة..
إذا لم تتحرك الأمة الإسلامية فلن تقوم لها قائمة، وإن التاريخ كما يقولون لا يرحم، وهو يعيد نفسه، لقد ذكر المؤرخون أن أهل مرو حين اجتاح التتار والمغول بلادهم، استنجدوا بالخليفة العباسي المستعصم بالله، الذي كان قد اتخذ من بغداد عاصمة له، فلم ينجدهم بسبب الضعف الذي أنهك جسد الخلافة العباسية، وقالوا: إن بلاد مرو بعيدة عنا، ولن يدركنا المغول والتتار، فما مضت إلا أشهر حتى زحفت جيوش المغول إلى بلاط الخلافة العباسية، ودمروا بغداد على ساكنيها، وقتلوا من أهلها ما يربو على مليوني شخص، لكن عندما اتحد المسلمون تحت راية واحدة، وأخذوا بعوامل النصر تحقق لهم النصر على المغول والتتار بعد سنتين، في معركة عين جالوت، حين نادى قطز ” واإسلاماه ” فالتف المسلمون حول رايته، وتحت قيادته، وكتب الله له النصر على المغول والتتار، وفروا على أعقابهم خاسرين، ودخل بعض قادتهم في الإسلام، فكان خيراً له.
وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي، حين رفع شعارين أساسيين لقيام كيان الأمة، وبذل جهده في تحقيقهما، كان شعاره الأول { ننطلق من التوحيد إلى التحرير } فوحد الأمة الإسلامية، وقضى على الشراذمة التي كانت تسمي نفسها دولاً، وتبتغي من وراء ذلك الكيد بالأمة الإسلامية، وكان شعاره الثاني { ننطلق من الاجتهاد والجهاد } فساهم في نشر العلم، وأيد العلماء وقربهم من مجلسهم، وأرسى هذين المبدأين خلال أربع وعشرين سنة، ثم توجه إلى معركة حطين، فانتصر فيها انتصاراً باهراً، وانطلق إلى بيت المقدس ليطهره من رجس الصليبيين.
إن قلوبنا لتتقطع، وإن أعيننا لتدمع، وإن جلودنا لتقشعر من هول ما نسمع ونشاهد من أخبار حلب، وإن أجسادنا آيلة للذبول، أصابها الوهن فهي لا تقوى على النهوض، من عظم المصائب التي نزلت بساحة أمتنا، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك كله سبب التقاعس، والتشاؤم، ولا يجوز أن يتطرق اليأس إلى القلوب؛ لأننا أمة لا تموت، تنتسب إلى نور لا يطفأ أبداً { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }، فلا مشروع الصهيونية يخمد نورنا، لا مشروع الطائفية يعيق تقدمنا؛ لأننا مستمسكون بحبل الله الذي لا انفصام له.
الخطبة الثانية
إن السبيل الوحيد الذي يخرج أمتنا من الضلال إلى الهدى، ويأخذ بيدها من التفرق إلى الوحدة، وينير لها دربها من الضياع إلى الوجود، هو الاعتماد على الله تعالى والالتجاء إليه بقلب سليم.
لما طاق الإمام أحمد بن حنبل صدراً بالعذاب الذي كان يلاقيه في سجن المأمون، واستراح السجان برهة من الزمن في جوف الليل، تضرح أحمد بن حنبل إلى الله وجثا على ركبتيه، وسجد سجدة طويلة استغاث فيها بالله تعالى، وقال: ” يا رب غر هذا الفاجر حلمك، فاكفنيه بما شئت ” فلم يرفع رأسه من السجود إلا وقد وصل الخبر إلى الجلادين أن المأمون قد هلك.
فلندع الله تعالى لإخواننا المسلمين في كل مكان بتضرع، وفي جوف الليل، وفي الثلث الأخير منه، فإن الله تعالى قريب مجيب، وليقم كل واحد منا بواجبه تجاههم، كل حسب طاقته، وموقعه.