أيها الإخوة المؤمنون
إن العبرة في كل الأمور بخواتيمها، والعبرة في كل قضايانا بعواقبها، فكم من أناس عملوا بعمل أهل الجنة من الطاعات والصالحات، ولكن الله لم يوفقهم إلى حسن الختام، فسبق عليهم الكتاب فعملوا بعمل أهل النار واستحقوا غضب الله تعالى وسخطه، وكم من أناس عملوا بعمل أهل النار من ارتكاب الفواحش والمنكرات ثم سبق عليهم الكتاب فوفقهم الله برحمته وفضله إلى الصالحات فعملوا بها ودخلوا في مرضات الله تعالى.
ولقد شاهدت بنفسي امرأة بلغت الثمانين من العمر، غير مسلمة، دعيت إلى منزلها ذات ليلة فعرضت عليها الإسلام، وبينت لها فضائل الإسلام ومزاياه، فأسلمت ثم تطهرت وصلت العشاء، ولما كانت صبيحة اليوم التالي شيع إليّ خبر موتها فحضرت جنازتها، وحمدت الله تعالى أن أنقذها من النار وهداها للإسلام.
ولما كانت العبرة بالخواتيم أولى الله تعالى عناية قصوى بالمنهج الذي يوصل الإنسان على خاتمة حسنة، حتى يموت الواحد منا على الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا ديناً.
ولم يكن شهر رمضان إلا إحدى تلك الوسائل التي تأخذ بيدنا إلى حسن الخاتمة، إذ جعله الله تعالى بمثابة دورة تدريبية كاملة، يحرص فيها المرء على الالتزام بالأوامر واجتناب النواهي، ويسارع إلى فعل الخيرات وترك المنكرات ويقي نفسه مما يرديه ويضله، ويحافظ على الذكر والتلاوة والقيام، ولا بد أن تظهر آثار هذا الشهر على سلوكه فيما بعد رمضان، وما قيمة صومنا ولا قيامنا إلا تلك الآثار التي تظهر جلية في أفعالنا وأقوالنا، وما هي إلا ثمار نجنيها من هذه الدورة التدريبية، ومن لم تظهر آثار هذه الدورة التدريبية عليه فقد حرم نفسه الخير كله، ومن يضمن له أن يدرك شهر رمضان في قابل الأعوام؟.
ألا وإن الفائدة العظيمة من هذه الدورة الرمضانية هي الاستقامة، والاستقامة صفة أمر الله تعالى جميع أنبيائه ورسله أن يتحلوا بها، فقال لموسى وأخيه هارون عليهما السلام:{ فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ولا يخفى عليكم من هو موسى عليه السلام؟.
كما أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وأمر من معه من المؤمنين الذين يرغبون في التوبة الصحيحة الخالصة، فقال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ }، والاستقامة هي ـــ كما يقول سيدنا عمر رضي الله عنه ــ: "فعل الطاعات وترك المنكرات وأن لا تروغ كما يروغ الثعلب". فإذا استقمنا على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات والمنكرات كتب الله تعالى لنا حسن الختام والجنة، وقد وعد الله تعالى عباده المستقيمين على أمره، الملتزمين بنهج كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ببشائر عظيمة، ذكرها في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }، فهذه البشائر لا تكون إلا لمن استقام واستمر على الطاعة، وعلى الطريق الصحيح، وعلى الصراط المستقيم، تنزل عليهم الملائكة تطمئنهم من الخوف والحزن، وتبشرهم بحسن الخاتمة ودخول الجنة، وتخبرهم بأنهم معهم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة معية موالاة وتأييد وتثبيت على الصراط المستقيم { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}.
فالاستقامة كرامة من الله تعالى، وهي جماع كل خير، ولقد جاء سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال:" قل آمنت بالله فاستقم" وفي رواية " ثم استقم".
والاستقامة مطلوبة في كل الأمور، ويجب على المسلم أن يلتزم بها وأن يسير على الطريق الذي بدأ به شهر رمضان من العبادات والطاعات والخيرات، فإن خير الأعمال ما داوم صاحبها عليها وإن قلّ، وكما تعلمون فإن هذا الشهر الفضيل قد آذن بالرحيل، فها هو يلملم خفيف متاعه، ويحزم أمتعته، وما هو إلا يوم أو يومان ثم يسافر إلى ربه، وقد عملنا فيه من الخيرات من صيام وقيام وتلاوة وذكر وصدقات واعتكاف، وخيرات لا تعد ولا تحصى، سيحصل هذا الشهر ويبقى معظم العبادات التي أديناها فيه بعد رمضان، وحتى لا نكون رمضانيين، علينا أن نستقيم على تلك الطاعات، وأن تستمر هذه الطاعات في حياتنا، إذ المؤمن عبد لله تعالى وحده، يعبد الله تعالى على كل أحواله، وفي كل مراحل عمره، ولا تتوقف عبوديته لله تعالى على زمن ولا مكان ولا فترة، فإذا كان صوم شهر رمضان قد أوجبه الله تعالى، فإن لنا في الصيام سنن ومستحبات لا نهجرها ولا نتركها، بل نحافظ عليها ابتداءً من ست من شهر شوال، وصوم يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وصوم الأيام البيض من كل شهر، وهكذا يبقى المسلم مستقيماً على طريق الصيام.
وكذلك القيام فالمسلم حريص على أن يحيي ليالي عمره في الطاعات، فإذا انتهى شهر التراويح سارع المسلم إلى التهجد وقيام الليل؛ امتثالاً لأمر الله تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
وكذلك فعل الخيرات والصدقات والزكوات فهي مستمرة مع المسلم ولا يتركها المسلم ل؛ لأنه حريص كل الحرص على تقديم ما يسره أن يلقاه في صحيفة أعماله يوم القيامة، ومما يبهج نفسه ويثلج خاطره أن يكون في خدمة مجتمعه وأمته، متعاوناً معهم على البر والتقوى.
وكذلك الذكر والتلاوة، فلا يجوز أن نهجر القرآن الكريم طيلة أحد عشر شهراً، ثم نعود إليه في شهر رمضان فقط، ومن فعل ذلك دخل في شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} هجروه تلاوة وعملاً، فعلينا أن نحافظ على ذكر الله تعالى وتلاوة ما تيسر لنا من الآيات والذكر الحكيم بشكل يومي، سواءً قلَّ أو كثر، المهم أن لا نهجر القرآن فتهجرنا البركة في الأرزاق والأعمار ونحرم الأجر من الله العزيز الغفار.
فلا بد أن نستمر حياتنا على هذا المنوال، وعلى هذه الطريقة بعد رمضان، فهذه وصية الله تعالى فينا، وتلكم الاستقامة التي أُمِر كل بني آدم بها.
والاستقامة أمران؛ الاستمرار بنفس القوة على ما بدأنا به شهر رمضان، ثم السير على هذه الطريق دون توقف، حتى نلقى الله تعالى وهو عنا راضٍ؛ لأن المسلم لا يعرف التوقف أو التأخر، ولأنه يعلم تماماً أنه لو توقف عند حد معين فقد خطى خطوته الأولى نحو التأخر، لذلك فهو حريص على الزيادة في الطاعات، وحريص على ترك المنكرات، حتى لا يرتد على عقبيه، وحتى لا يكون من الخاسرين.
ولقد ورد عن السلف الصالح أن من علامات قبول الأعمال الصالحة ومن الإشارات الدالة على أنها لقيت القبول من الله تعالى أن يكون حال فاعلها بعد الانتهاء من أدائها أفضل مما كان عليه قبل الأداء، فإذا أردنا أن نعلم أَقَبِل الله من رمضان وصيامه وقيامه أم لا؟ ننظر إلى سلوكنا وتصرفاتنا بعد رمضان، فإن كانت أحسن مما كنا عليه قبل رمضان فلنا البشرى، وعلينا الاستقامة والاستمرار على ذلك، وإلا فإن الشقي من حُرِم الخير كله، ولا يظلم ربك أحداً.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن تقبل منهم الصيام والقيام، وأن يرزقنا حسن الختام.
الخطبة الثانية:
نستقبل بعد يوم أو يومين عيداً مباركاً، يجب علينا أن نهيئ أنفسنا له من خلال إبداء المحبة والقيام بالواجب تجاه الأقارب والمجتمع، وأن نحرص كل الحرص على صلة الأرحام بكل طريق ممكنة، وبكل وسيلة تقرب المسلم من أخيه المسلم، وبكل سبيل يوقد بيننا مشاعل الود والاحترام.
وإننا نتضرع إلى الله تعالى أن لا تدوم هذه القطيعة الشديدة للرحم بين الأُسَر الواحدة، ولا مبرر لها سوى إيحاءات خارجية، ليس لها مبرر لا شرعي ولا وطني ولا قومي.
إن مما يرتبط بالاستقامة في عالم السياسة هي الاستقامة على احترام الثوابت والمبادئ والدستور الشرعي من قبل الساسة والدولة، أم أن تتحكم الأهواء وتنعدم الثوابت حتى يصل الأمر بالأمة أن يذكرها من لا يدين بالإسلام بحرمة شهر رمضان وقدسيته، فهذا دليل على الانقلاب على الثوابت والمبادئ.
من يحترمنا اليوم؟ ونحن لا نرعى في بعضنا إلّاً ولا ذمة، ومن يحترمنا وقد شاهد العالم كله ما يفعل بعض الدول بشقيقتها قطر؟.
إن الذي يحدث من حصار جائر غاشم لم يحدث على مر التاريخ لا في الجاهلية ولا في الإسلام إلا ما كان من حصار قريش لبني عبد المطلب في شعب أبي طالب إبَان إعلان النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة.
تربطنا بمن يقاطعنا ثوابت إسلامية وقومية وخليجية، فأين شعارهم القومية العربية؟ وأين هتافهم الخليج الواحد؟ وأين القبيلة الواحدة؟
إن الجانب الاجتماعي في القبيلة من حيث التكاتف والتآلف والتحالف لنصرة المظلوم لرائع وجميل، فأين كل ذلك اليوم؟
إن الله تعالى حرم قطيعة الأرحام، وجعلها من الكبائر التي تسبب العقوبات وتمنع البركات، وجمعها مع الإفساد في الأرض، فقال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } ولا يقبل الله تعالى من المتخاصمين أعمالهم حتى يصطلحوا، هذا فيما إذا كان كلهم يدعو إلى الخصام، أما إذا دعا طرف إلى الهجر والقطيعة والطرف الآخر يسعى في السلم ويدعو إليه فإن الله لا يبقل من المخاصم وحده وتحل به العقوبات وحده، دون الطرف الذي يسالم ويرضى بالحوار.
كل ما فعلته قطر أن آوت المظلومين، وهذا من شيم العرب وشهامتهم، ولقد أجاز الإسلام حماية المشركين إذا لجؤوا إلينا وطلبوا ذلك منا، فقال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } فكيف لا يجوز ذلك في حق المسلمين؟ حتى حركة حماس هي المقاومة المشروعة حسب قانون الأمم المتحدة، وقد يوصف بالإرهاب من يقف معها، فأين الثواتب؟
علينا أن نغتنم هذه الأيام الأخيرة من شهر رمضان، وهذا اليوم العظيم في الدعاء أن يكشف الله الغمة عن الأمة، وأن يوحدها على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يحمي قطر من كل سوء وبلاء.