أيها الإخوة المؤمنون
إذا تدبرنا في كتاب الله تعالى، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي سيرته العطرة لوجدنا أن هذا الدين العظيم جاء لتحقيق مجموعة من المقاصد الكبرى والغايات العظمى، وعلى رأسها طهارة الفرد المسلم وطهارة الأمة المسلمة ظاهراً وباطناً.
وتحقيقاً لهذه الغاية كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } إشارة إلى طهارة الظاهر، و قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} تصريحاً بوجوب طهارة الباطن من الشرك والرياء والنفاق وكل ما نهى الله تعالى عنه، كما أن قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} يفيد أن التوبة تغسل الذنوب وتطهر الإنسان، فهي كالماء الصافي والينبوع الكامل، وتحقق محبة الله تعالى لكل من طهر نفسه وذاته ظاهراً وباطناً.
ولقد جعل الإسلام الطهارة ـــ ظاهراً وباطناً ـــ ركناً لكل العبادات التي شرعها، فهي متوقفة عن القبول، ولن تقبل إلا إذا أديت بطهارة الظاهر والباطن، فالغاية القصوى هي الوصول إلى طهارة القلب والنفس والابتعاد عن الخبائث والأوساخ والأمراض والأنجاس المتعلقة بقلب الإنسان وعقله وفكره ونفسه وروحه.
هذا هو الإسلام الذي يريد الله تعالى أن يتحلى به المسلم، يصقل فيه صفاته، ويطهر جوهره، يقي الروح والنفس والجوارح من رجس الصفات، حتى يكون المسلم بمثابة قرآن يمشي على الأرض.
فأمراض القلوب من أخطر الأمراض التي تفتك بالمجتمعات وتفرقها، وتشتت شملها، وتوهن عزيمتها، ومن هذه الأمراض مرض النفاق، وهو نوعان؛ النوع الأول: النفاق الأكبر، وهو نفاق العقيدة، أن يظهر المرء خلاف ما يبطن عقيدة، كأن يظهر الإيمان بالله تعالى ويبطن الكفر، ويأبى الحق ويستنكره، فهذا كفر توعد الله تعالى صاحبه بالخزي والذل والهوان في الدنيا، وفي الآخرة يرد إلى أشد العذاب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}، والنوع الثاني: وهو الشائع هو نفاق العمل، وهو الرياء وذو الوجهين، وإظهار شيء للوصول إلى المصلحة الشخصية بأي وسيلة كانت، مشروعة أو غير مشروعة؛ لذلك فهو يرائي ويحابي ويجامل، ويظهر الباطل في ثوب الحق، وهو كاذب على الله تعالى وعلى نفسه، وعلى من ينافق له، فهذا الصنف دون الأول من حيث الكفر، ولكنه يناله نصيبا من الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
لخطورة النفاق على الإيمان، وأثره السيء على المجتمعات، بين النبي صلى الله عليه وسلم صفاتهم، محذراً الأمة من الاتصاف بها جميعاً، أو بأي منها، فمن صفات المنافقين:
الازدواجية في المعايير والتعامل، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
الحلف كذباً، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
الغضب والتشاؤم لما يناله المسلمون من خيرات، والفرح لما يصيبهم من نكبات، والشماتة بهم، قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}.
التخلف عن الصلاة والتكاسل والتشاغل عنها، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}.
عدم الاستقرار والإمعية، قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}.
الرياء، والتلون بأكثر من لون، وإظهار التنطع في القول، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}.
التعاون مع أعداء الأمة، حتى يرضى عنه العدو فلا بد أن يقدم تضحيات عظيمة، تفتك بأمته وتشبع غرور العدو وترضي كبرياءه، فالمنافق على صلة وثيقة وعلاقة متينة بأعداء الأمة، والمنافق هو الثغرة التي تؤتى الأمة من قبلها، كل ذلك ليتقي منصباً، أو يحظى بمتاع من الدنيا قليل، وبعضهم يقدم تلك الخدمات لأعداء الأمة مجاناً، فقد لأنه يريد الإساءة إلى الأمة، ويحب أن يحدث تمزقاً في صف وحدتها، وشرخاً في ثوب ألفتها.
ولقد رأينا كم تخلى أناس عن مبادئ هتفوا بها لسنوات، وجعلوها ميزان الاتباع والابتداع، وأقاموها مقام الإيمان والكفر، تخلوا عنها لمجرد أن لاح بريق العلمانية الخلَّب في آفاقهم، نادوا بالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفار وأعداء الله ورسوله وأعدا المؤمنين، وبين عشية وضحاها أصبح العدو المتربص بالأمة ربان سفينة النجاة.
حالة الأمة من الناحية الأخلاقية ليست على ما يرام، وليس بين أفرادها ومجتمعاتها ما يسمى بالحوار الهداف الهادئ حسب الأدلة المعتبرة.
وغن أشد المنافقين على الأمة أولئك الذين أوتوا الجدل، المنافق العليم اللسان، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ" والمراد بعليم اللبسان، أنه يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور والمنكر، وهذا حال معظم وسائلنا الإعلامية، فيها الكثير من الكذب والتلفيق والافتراء؛ ليصل إلى المتابع أن الباطل حق والحق باطل، وأن المظلوم ظالم، والظالم مظلوم، وأن البريء متهم والمتهم بريء، فيتقبل المتابع ذلك ويتطبع به ولا ينكره.
خيانة الأمانة، والكذب، والغدر، والفجور في المخاصمة، قال صلى الله عليه وسلم:" أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ".
فالمنافق يتخذ الكذب ذريعة لكل شيء، وهو حرام شرعاً، وليس في الإسلام ما يسمى بالكذب الأبيض، بل الكذب كله أسود يمحق إيمانه صاحبه؛ لأن المرء إذا استسهل الكذب هان عليه فعل أي شيء، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم:" هَلْ يَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ: هَلْ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا ".
وكذلك خلف المواعيد والوعود فإن المنافق لا يحترم عهداً ولا يهتم بوعد، فمخالفة الوعد من صفات المنافقين، كما أن صدق الوعد من صفات الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، قال تعالى عن سيدنا إسماعيل عليه السلام: { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} ولقد كانت هذه الآية سبب تراجع الكاتب والديب الكبير عباس محمود العقاد عن العلمانية، وصرف جل دراساته للدراسات الإسلامية، حيث اتفق ذات يوم مع رجل لينهي له عملاً، وحضر الرجل في حالة يرثى لها، مضطرب الوصال تظهر على يديه آثار حروق وجروح، فسأله العقاد عن السبب، فقال: أصيبت زوجتي بحريق وقد أسعفتها، ولما حان الموعد أتيت، فقال العقاد: أتأتي وزوجتك في تلك الحالة، فقال الرجل: إن الله تعالى جعل صدق الوعد من الإيمان، ومخالفته من صفات المنافقين، فكيف لا أفي بالوعد؟.
وإن المنافق إذا أعطى موثقاً وعقداً، واتفقاً يغدر بعده وميثاقه، ولا يتمه إلى أجله ولا إلى مدته.
وإذا حدثت خصومة ترى المنافق يتجاوز حدود الأدب، والاحترام، ويفجر في المخاصمة؛ بغية إيصال الضرر النفسي والمعنوي إلى الخصم، لا يرعى في ذلك للحوار أدباً.
ومن الفجور الكذب والافتراء والغدر، وهذا ما نشاهده في معظم وسائل الإعلام، حيث السب والشتم لأشخاص ودول، وهو يعلمون أنهم مدعون أفَّاكون، وكاذبون آثمون، يحولون الحق إلى باطل، ويجعلون الباطل حقاً.
وليعلم الجميع أنه لابد من صلح ورجعة إلى الوضع الصحيح السليم، فكم هو جميل ان تعود الأحوال إلى سابق عهدها دون أطنان من الكذب والفجور والجور والافتراء، حتى تبقى لذة التواصل، ويبقى القلب طاهراً نقياً.
إن من أسباب النفاق ضعف الإيمان، وعدم الثقة بالنفس، والحسد والحقد، وحب الشهوات وحب الدنيا، وعلى الأمة إذا رغبت في التخلص من هذا المرض الخطير أن تربي أنفسها على الصدق وترك الكذب والنفاق، ومن لم يستطع فالأولى به السكوت، فالسكوت خير من أن يكون المرء ذا وجهين، أفضل من أن يشهد زوراً، أو يقول بهتاناً، أو يأتي إفكاً، أو يحكم جوراً.
الحطبة الثانية
إذا لم تعالج هذه الأمراض الخطيرة التي انتشرت فيها على نطاق واسع ازداد المجتمع ضياعاً وتفرقاً، وغرق في الفساد، وقد ورد في بعض الكتب أنه قيل لفرعون: ما الذي جعلك فرعوناً؟ فأجاب: هؤلاء القوم، حيث شهدوا له في كل شيء بأنه على الحق، حتى استخف فرعون بعقولهم، فأعلنوا الطاعة العمياء.
فإذا رضي المجتمع بالأمر بالمنكر والنهي عن الحق، وضعف عن مواجهة الباطل الذي لا حقيقة له، برز في المجتمع فراعين كثر، وظهر من يقودها إلى الضلالة والشقاء.
علينا في سبيل منع انتشار هذه الأوبئة الخطيرة، والقضاء عليها تربية المجتمعات تربية إيمانية، بحيث يدرك الفرد أن مماته وحياته بيد الله تعالى، وأن الله تعالى هو رازقه من غير حول من الإنسان ولا قوة، حينئذ يقدم رضاء الله تعالى على كل رضىً، ويسمو بإيمانه ويرتقي بمجتمعه، ومن كان رضاء الله غايته فلا يضعف ولا يذل ولا يستكين.
اللهم أصلح أحوالنا