من أهم الشروط اليت تتعلق بالأجرة ما يأتي :
أولاً : أن تكون معلومة علماً ينفي الجهالة المفضية إلى النزاع ، وتتحقق هذه المعلومية إما برؤية محل العقد أو تعيينه او الإشارة إليه ، او نحو ذلك مما يعد في العرف تعييناً أو بياناً لكيفية الاستعمال ، وكذلك لا بد من بيان المدة إذا كانت الإجارة غير مرتبطة بإنهاء العمل ، وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال .
ففي نطاق إجارة الأشخاص يتحقق العلم بإحدى الطريقتين الآتيتين :
الأولى : بيان العمل ونوعه ، وكيفيته ، وذلك في الإجارة المشتركة .
الثانية : بيان مدة الإجارة ، كما في الإجارة الخاصة ( الأجير الخاص ) كاستئجار شخص لخدمته ، أو لوظيفة لمدة سنة ، وحينئذٍ يخضع لتنفيذ العمل للاتفاق ، وإلاّ فللعرف ، حيث إن له سلطاناً كبيراً في هذا المجال .
الجمع بين الطريقتين :
إذا كان العلم في الإجارة يتحقق بإحدى الطريقتين السابقتين ، فهل يجوز الجمع بينهما في عقد واحد ؟
ذهب جمهور الفقهاء ( أبو حنيفة والمالكية في قول ، والشافعية والحنابلة ) إلى عدم جواز الجميع بين الزمن ، والمدة ، وفساد العقد به ، وذلك لأن العقد على المدة مع وجود العمل يزيده جهالة وغرراً ، يقول الكاساني في توجيه هذا الرأي : ( إن المعقود عليه مجهول ، لأنه ذكر أمرين ، كل واحد منهما يجوز أن يكون معقوداً عليه ” أعني العمل والمدة ” ولا يمكن الجمع بينهما في كون كل واحد منهما معقوداً عليه ، لأن حكمهما مختلف ، لأن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل ، لأنه يكون أجيراً خالصاً والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل لأنه يصير أجيراً مشتركاً فكان المعقود عليه أحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فكان مجهولاً ، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد بخلاف تلك المسألة ، لأن قوله على أن يفرغ منه في يومي هذا ليس جعل الوقت معقوداً عليه بل هو بيان صفة العمل بدليل أنه لو لم يعمل في اليوم وعمل في الغد يستحق أجر المثل ) .
وذهب إلى جوازه وصحته أبو يوسف ، ومحمد صاحبا أبي حنيفة ، والمالكية في قول ، والشافعية في وجه ، وأحمد في رواية ، واستدلوا بأن : ( المعقود عليه هو العمل ، لأنه هو المقصود ، والعمل معلوم ، فأما ذكر المدة فهو للتعجيل فلم تكن المدة معقوداً عليها فذكرها لا يمنع جواز العقد وإذا وقعت الإجارة على العمل فإن فرغ منه قبل تمام المدة أي اليوم فله كمال الأجر ، وإن لم يفرغ منه في اليوم فعليه أن يعمله في الغد كما إذا دفع إلى خياط ثوباً ليقطعه ويخيطه قميصاً على أن يفرغ منه في يومه هذا أو اكترى من رجل إبلاً إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل ليلة بعير بعشرة دنانير مثلاً ولم يزد على هذا ان الإجارة جائزة ثم إن وفى بالشرط أخذ المسمى ، وإن لم يف به فله أجر مثله لا يزاد على ما شرطه) .
والذي نرى رجحانه هو القول الثاني ، وذلك لأن الجمع بين الجوازين ، لا ينبغي أن يترتب عليه عدم الجواز ، أو الفساد ، بل ليس بينهما تعارض ، لأن المقصود بتحديد العمل هو تحقيق الصفات المطلوبة التي يريدها المستأجر ، وبتحديد المدة الفراغ منه في الوقت المحدد ، وكلاهما من الأغراض المقصودة المحققة لمصالح الطرفين .
ما يتعلق بالمدة :
إذا وجدت المدة في العقد فلا بد أن تكون معلومة محددة ، وذلك لأن المدة هي المعيار الأساس لعقد الإجارة لذلك تحدث الفقهاء عن أربعة أمور :
الأمر الأول : كيفية تحديد المدة ، حيث قالوا : يمكن تحديدها بالساعة ، أو اليوم ، أو الأسبوع ، أو الشهر ، أو السنة ، أو نحوها واختلفوا في تحديدها بزمن الحصاد أو نحو ذلك مما يمكن الاختلاف عليه ؟ .
والذي يظهر لنا رجحانه هو عدم الجواز في كل ما يؤدي إلى النزاع ، وأن المعتمد في التفسير والبيان هو العرف السائد فيما لو ربط بمثل هذه الأمور .
الأمر الثاني : طول المدة ، حيث ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية والمالكية ، والشافعية على الأصح ، والحنابلة ) إلى جواز أن تكون المدة قصيرة أو طويلة ما دامت محددة استدلالاً بقصة موسى عليه السلام ، ولأن المدة الطويلة إذا كانت محددة لا تورث نزاعاً ، وهذا هو الراجح .
وذهب الشافعية على الصحيح إلى أن المدة لا بدّ أن لا تزيد عن ثلاثين سنة ، وهذا مجرد اجتهاد ، وقدرها بعضهم بسنة ، وهذا مخالف لقصة موسى عليه السلام .
الأمر الثالث : الإجارة التي لم يحدد لها نهاية ، وذلك بأن يقول : أجرتك لخدمتي ، أو للعمل الفلاني ، كل شهر بألف ريال مثلاً .
وهذا النوع من العقد فيه خلاف بين الفقهاء على عدة آراء :
الرأي الأول : ـ ذهب المالكية ، وأحمد في رواية ابن منصور اختارها الخرقي إلى صحة هذا العقد ، ثم قال المالكية بأن العقد لا يلزم إلاّ إذا نقد المستأجر أي دفع الأجرة نقداً ، وحينئذ يكون العقد لازماً بقدرها ، فلو أجر نفسه على أن يكون له في كل شهر ألف ريال ، ولم يحدد الزمن ، ودفع المستأجر عشرة آلاف ريال ، فهذا يعني أن العقد لازم لمدة عشرة أشهر .
وأما عند الحنابلة في رواية ابن منصور فيكون العقد لازماً لليوم الأول ، أو الشهر الأول ، وفيما عداه يكون العقد صحيحاً ، ولكنه يجوز لكل واحد منهما حق الفسخ ، جاء في المقنع : ( وان أكراه كل شهر بدرهم ، أو كل دلو بتمرة ، فالمنصوص أنه يصح ، وكلما دخل الشهر لزمهما حكم الإجارة ، ولكل واحد منهما حق الفسخ عند تقضي كل شهر ) وعلق عليه صاحب الإنصاف : ( وهو المذهب ، قال المصنف ، والشارح ، والناظم ، فصاحب الفائق وغيرهم : يلزم الأول بالعقد ، وسائره بالتلبس به…. والصحيح من المذهب أن الفسخ لا يكون إلاّ بعد فراغ الشهر… وان ترك التلبس به فسخ….. ) .
الرأي الثاني : ـ ذهب جمهور الشافعية،وبعض الحنابلة إلى بطلان هذا العقد للجهالة .
الرأي الثالث : ـ ذهب جمهور الحنفية إلى صحة العقد في الشهر الأول وفساده فيما عداه .
الرأي الرابع : ـ ذهب بعض مشايخ الحنفية إلى أن العقد صحيح في الشهر الأول والثاني والثالث ، لجريان العرف بذلك ، وفساده فيماعداها .
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول الأول وداخل القول الأول فالمختار عندي هو مذهب المالكية وهو لزوم العقد بقدر ما دفعه ، لأن دفع المستأجر المبلغ ، وقبوله من قبل الأجير دليل على رضاهما بالصفقة ولزومها بقدر هذا الدفع ، ولأن الأصل في عقد الإجارة اللزوم ، فلا يعدل عنه إلاّ بسبب قوي ، ويبقى الاختيار بعد ذلك بسبب عدم تحديد المدة.
ويدل على صحة هذا العقد ما ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه أجر نفسه ليهوديّ ، ( كل دلو بتمرة ، فعدّ ستة عشر دلواً أو سبعة عشر دلواً ، وأخذ الأجرة كاملة ، وتكرر مثل ذلك من أنصاريّ ، فعلم بهما النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهما على ذلك .
وقت فسخ هذا العقد الذي لم تحدد له نهاية :
عند من قالوا بصحة هذا العقد فإنهم مختلفون في انتهاء هذا العقد فعلى ضوء الرأي الرابع ينتهي بعد الأشهر الثلاثة ، والرأي الثالث بعد الشهر الأول ،وعلى ضوء رأي المالكية يكون للعاقدين حق الفسخ بعد انتهاء المدة التي دفع فيها الأجرة نقداً ، وعلى ضوء المنصوص عن أحمد هو ما ذكرناه في الرأي الأول .
ولكن جمهور الفقهاء متفقون على أن الأجير إذا استمر في عمله ، والمستأجر استمر أيضاً في دفع أجرته بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة فإن العقد يستمر استصحاباً ، أو استحساناً وإنما الخلاف في زمن الخيار عند بدء المدة الجديدة كالشهر ، أو السنة مثلاً ، فذهب الحنابلة إلى أن لهما حق الفسخ في أول كل شهر في الحال ، بحيث إذا دخل الشهر الثاني ولم يفسخ العقد لزمهما حكم الإجارة ، قال المرداوي : ( وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ، وهو المذهب ، واختار أبو الخطاب والمصنف ، والشارح ، والفتح تقي الدين : أن الفسخ يكون قبل دخول الشهر الثاني، وصرح به ابن الزاغوني ، فقال : يلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر ، فعلى هذا لو أراد الفسخ يقول : فسخت الإجارة في الشهر المستقبل أو نحو ذلك ، والصحيح من المذهب : أن الفسخ لا يكون إلاّ بعد فراغ الشهر … وقال المصنف : له الفسخ بعد دخول الشهر الثاني ، وقبله أيضاً ، وقال أيضاً : ترك التلبس به فسخ …. فعلى المذهب يكون الفسخ في أول كل شهر في الحال على الصحيح …. ) .
وللحنفية في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : يلزم العقد بالاستمرار في الشهر الثاني ولو ساعة من الزمن ، وهكذا في الشهر الثاني ، والثالث ، وهذا رأي بعض مشايخهم بناءً على القياس .
القول الثاني : هو أن وقت الفسخ هو الأيام الثلاثة الأُول من كل شهر ، قال صاحب البزازية : وعليه الفتوى .
القول الثالث : هو أن وقت الفسخ هو اليوم الأول مع ليلته ، كل شهر لجريان العرف والعادة ، وهذا ما اختاره ابن عابدين واعتبره من ظاهر الرواية وأضاف ابن عابدين إلى ذلك مسألة مهمة وهي ان المستأجر إذا سلّم إلى الأجير مبلغاً من المال واستلمه الأجير فليس لأحدهما حق الفسخ حتى ينتهي المبلغ ، وهذا هو رأي المالكية ـ كما سبق ـ وهو الرأي الذي رجحناه .
الأمر الرابع : ابتداء المدة وانتهاؤها :
إذا اتفق الطرفان على بداية العقد ونهايته فيجب عليهما الالتزام بهاتين المدتين ، وأما إذا لم تذكر نهاية المدة ، فقد ذكرنا آراء الفقهاء آنفاً .
أما إذا لم تذكر بداية العقد فقد اختلف الفقهاء على عدة آراء :
الرأي الأول : بطلان العقد ، وهذا هو رأي بعض الشافعية وأحمد في رواية لوجود الجهالة المفضية في النزاع .
الرأي الثاني : صحة العقد ويكون ابتداؤه من حين العقد وهذا رأي جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية ، والراجح عند الشافعية ، وجمهور الحنابلة ) وهذا هو الراجح لقصة موسى عليه السلام حيث لم يحدد بداية المدة .
وجود مدتين في الإجارة :
تضمنت قصة موسى عليه السلام وجود مدتين إحداهما التزام ، والآخر تطوع ، وهذا دليل على جواز الجمع بينهما ما دام الزمن الآخر ليس الزامياً .