بسم الله الرحمن الرحيم
ايها الاخوة المؤمنون
فقد تحدثنا في الخطب السابقة عن أهمية المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، وأمام الانسان والتاريخ، وقد تحدثنا عن ذلك من خلال الايات الكريمة التي تتحدث عن خطورة المسؤولية، وعن خطورة السؤال، وعن مستقبلنا أمام الله سبحانه وتعالى “وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ” .
وفي هذه الخطبة أتحدث عن التربية على هذه المسؤولية، وعن غرس هذه المسؤولية في النفوس الناشئة من خلال تربية جادة، لأن هذه التربية تعتبر من الضروريات الاساسية لنجاح هذه الأمة، حتى تكون قادرة على صنع الحضارة ،وعلى أن تلتحق بالأمم الأخرى حتى في الدنيا.
فالمسؤولية هي التي تصنع الرجال، هي التي تصنع الحضارات، وقد حدثني احد الاخوة حينما ناقش أحد الكوريين الجنوبيين فقال له لماذا تجعل ابنك يذاكر ما عدا الساعات الدراسية خمس ساعات أو ستة ساعات اضافية، فقال: “حتى يبني بلده، حتي يبني نفسه ومجتمعه”، لأن المجتمع لا يبنى بفضول الوقت، ولا باللامبالات، ولا بما نراه من بعض شبابنا وهم لا يحسون باي مسؤولية لا أمام الله، ولا أمام التاريخ، ولا أمام الوالدين، ولا أمام المسؤولين.
يصنع الحضارة والتقدم والعلم حينما يحس الانسان في البداية بالمسؤولية أمام الله، وقد منحك الله بطاقات عظيمة، لم تمنح لأي مخلوق آخر سوى الانسان، فلماذا لا تستعمل هذه الطاقات في تعمير الارض، وفي خدمة الانسانية والشعب والوطن والامة. إن أمتنا قد شاعت فيها مصطلحات غريبة، واصبحت هذه المصطلحات في اللامسؤولية وعدم الاحساس بها كأنها حتميات، ومبررات، وعلل قاطعة لا يمكن مناقشتها، ومن هذه المصطلحات “معليش” أو “ما يخالف” أو “لا يهمك” أو “كل ماشي” ، فعند اضافة هذه المصلحات الى فعلتك اصبحت تعلل الاثم بشئ غير حقيقي بدل أن تعتذر وتحس بالمسؤولية.
هذه هي المرض الخطير ولا بد من المعالجة علاجاً جذرياً، لأن هذا المرض حينما يصل بالانسان الى مرحلة عدم الاحساس، وترتكب المنكرات وتخالف المواعيد،ولا تؤدي واجب الوظيفة ثم تبررها بهذه المصطلحات، اصبحت كالميت في عالم الطب من عدم الاحساس والشعور، أو مصابا بمرض السرطان الذي لا يصاحبه الألم الا أن ينتشر اذا لم يكشف، حينئذ لا ينفعه الدواء الا من رحمه الله
اذا اردنا ان نبني الامة فلا بد ان نحمي شبابنا ،وقد ضحت الامة بكثير ولكن كل هذه التضحيات لن تنفع الامة الا اذا بنيناها على الجسد الواحد الحساس بالمسؤولية، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فإذا احسست بألم الاثم تسعى للعلاج، اما اذا لم تحس وتظن أنك صحيح فحينئذ أنت مريض او مصاب بمرض خطير نسأل الله العفو والعافية.
فيجب على الامة الاسلامية بدولها وشعوبها وأسرها أن تتعاون جميعأ لبناء الامة من جديد اذا اردنا أن تكون لنا قائمة، وأن تكون لنا حضارة وقوة، وأن يُحسب لنا حساب، ناهيك عن حساب الله في ذلك اليوم العصيب، ولكن قبل ذلك، نحن مسؤولون ان نحقق لأمتنا الخير، ولا يتحقق الخير الا من خلال امة قادرة مبدعة وحساسة، تحس بالالم والنقص الى أن تعالجها.
الرسول صلى اله عليه وسلم بنى أمته على هذه المسؤولية، وجعل كل واحد منهم يحس بالمسؤولية أولاً أمام الله سبحانه وتعالى، وهذه المسؤولية تعمل في داخله ليل ونهار، فيتكون لديه النفس اللوامة التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها ” وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” والنفس اللوامة هي التي تلومك على تقصيرك في فعل الخيرات، تلومك على ارتكاب المنكرات، ولا ترضى بما تفعل حتى تزداد في الخيرات.
الامة تبنى بالانسان، بتكوين الانسان، بالامة الفاعلة والابداعات والتطوير والتعمير، ولو وقعت ألف ثورة، ولم تتجه هذه الثورات لبناء انسان صاحب مسؤولية، فلا يكون الا تغييرا في الاشخاص والوجوه دون تغيير في الامة وبناء الامة .
المسؤولية ليست خاصة بالدولة فقط وانما هي تعم الدولة وتعم الفرد والاسرة ووزارة التعليم ومؤسسات التربية والجامعات والمساجد وائمة المساجد ، على هذه المؤسسات ان تتكاتف لتصنع هذا الاحساس بالمسؤولية من خلال الاسرة في البداية و المؤسسات التعليمية بعدها، وان نصنع اجيالا من منطلق الاحساس بالمسؤولية في السن المبكرة للطفل والطفلة، وهكذا فعل الرسول مع ابن عباس ومع عبدالله بن الزبير ومع اولاد الصحابة فكان يغرس الاحساس بالمسؤولية من البداية ” إحفظ الله يحفظك ، إحفظ الله تجده تجاهك” وهكذا فعل سيدنا لقمان وقال” يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” وبهذا يحس الصغير بأن الله يراقبه، ويحس الشاب أن الله يراقبة ،ويحس الكهل كذلك، ولا بد أن نفهم بأن هذه المراقبة ليست مراقبة اخروية فقط، فلم يخلق الله هذه الامة من اجل الاخرة فقط ،انما اُخرج هذه الامة لخدمة البشرية والكون والتعمير على منهج الله. فالله كما أمرك بالذكر أمرك بالاستخلاف، وأمرك بتكوين الامة، وأمرك بالاعداد وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ” فهذا الأمر مثل الامر الذي قال الرب جلا وعلا ” وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ” ، وكما أمرنا بالصلاة من يوم الجمعة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ” أمرمت ايضاً بـ” فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ” ، فلماذا نعمل ببعض الاوامر ونهمل الآخر، و حتى أن أًخذ الاوامر الاولى قد يكون شكلا وليس حقيقة وجوهرا.
فاذا اردت ان تكون اولادك صالحين، ومبدعين، فعليك أن تغرس هذا الروح، روح المسؤولية في انفسهم، وهكذا تصنع الاجيال من خلال القدوة، ومن خلال الرقابة الذاتية، ومن خلال الوعظ والارشاد والبيئة والرفقة الصالحة، والتشجيع على الابداع، وتعطي لها قوة، حتى تسعي ليكون نجما من النجوم او شمسا من الشموس.
ان عدم الاحساس بالمسؤولية ام المشاكل والاحساس بالمسؤولية ام الخيرات ويدور حوله كل شئ نافع ويدور حول عدم الاحساس كل شئ ضار فعند الاحساس بالمسؤولية لا يكذب الفرد وقد نفي الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم الحقيقي ان يكذب.
وتشترك في غرس هذه الاحساس بالمسؤولية الدولة ومؤسسات الدولة بحيث يكون هناك برنامجا خاصا نظريا وعمليا وسلوكيا لبناء هذا الفرد المسلم بحيت يجعل الطفل الصغير يتحمل مسؤوليته وبالتالي يُسأل عن هذه المسؤولية وهو صغير، لا يعاقب، ولكن يربى على هذه المسؤولية.
الخطبة الثانية
إن قضية المسؤولية والاحساس بالمسؤولية قضية تربوية اساسية، وإنها ليست قضية عرضية تفرض من خلال العقوبات والقوانين، وانما تغرس في النفوس، كما تغرس أية وسيلة من وسائل التربية في نفوس الشباب والنشئ. وبين الله سبحانه وتعالى اهمية هذا الاحساس من خلال هذه التربية ثم الوصول الى هذه النفس اللوامة.
من هنا نحن نستغرب عندما تقع مشكلة كالتي تقع في الامن في العالم الغربي الا وتجد الوزير أو رئيس الدولة يقدم استقالته، وفي بعض بلادنا يقتل آلاف، بل عشرات آلاف، وقد يحدث تقصير كبير في أمن وسلامة المواطنين ولا يحدث اي تغيير، وفي بعض البلاد قد يرتقي المفسد، وينال ويكافأ بدل أن يعاقب، وتُحمل المسؤوولية على عاتق الضعفاء والمساكين، ولا تطبق القوانين الا على الضعفاء، وهذا ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه” إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”
هذا الظالم في سوريا يظلم الشعب السوري من اثني عشر شهرا فماذا عملنا؟ اوروبا قامت وامركيا قامت لحماية البوسنة -ولو كان هذا القيام متأخرا- ولكن حموا البوسنيين من ابادة الصرب لهم، فماذا عملنا نحن لسوريا ، نعم قد قامت قطر، وتركيا تعمل نوعا ما، ولكن لا يكفي، بل لابد من تجمع الامة، فدم المسلم يراق يوميا وبكل الاسلحة ، ويحتاج الامر الى عقد قمة سريعة جدا ولا ننتظر قمة بغداد، فالنظام في سوريا لا يستطيع ان تتحدى الجامعة العربية، ولكنه يعلم أن العالم العربي لايولي العناية، ولا يحس بالمسؤولية الكاملة . اذا مشكلتنا في المسؤولية ، مسؤولية الفرد والجماعة والاحزاب والدول.
وأين الاحساس بالمسؤولية في قضية القدس ، اين نحن من صلاح الدين فقد حكم 24 سنة ولم يتقهقه وقد روى صلاح الدين حديثا -وهو محدث- والحديث فيه تبسم فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما تكلم بهذه الكلمة، والراوي قلد الرسول في التبسم، والتابعي كذلك، الى أن وصل الى صلاح الدين فتبسم صلاح الدين اقتداءاً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال: ” لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم تبسم ما تبسمت وكيف ابتسم والقدس بأيد الصليبيين ” فنسأل الله العافية.