أيها الأخوة المؤمنون
إذا نظرنا في عالمنا الإسلامي من الجانب الاجتماعي، نجد أن عالمنا الإسلامي، على الرغم من كل هذه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وكذلك ما قاله علماؤنا و سابقونا في مجالات التربية، وفي مجالات التصفية والتزكية، نجد أن النفوس لا زالت مشحونة، أو لا زالت مشنوءة بعضها مع البعض، فتكثر المشاكل داخل المجتمع، وقد تصل هذه المشاكل إلى داخل الأسرة، بين الاقارب والأخوة، وبين القبائل والشعوب، وبين الجماعات والأحزاب، فنجد هذه الصراعات الخطيرة التي تجري في عالمنا الإسلامي لن تبشر بالخير أبداً، ولن تحقق الخيرية التي أراد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة في أن تكون قدوة في الوحدة والتماسك، وفي صفاء النفوس، وكذلك في التعامل الطيب، ونبذ الأحقاد والأضغان. المشاكل داخل المجتمع الإسلامي ككل، بين الأخ وأخيه، سواء كانت تلك الأخوة أخوة نسب، أو أخوة الدين، كما يقول الله سبحانه وتعالى ( إنما المؤمنون إخوة ….) فقد ربط الله الرحمة بالإصلاح بين الناس، بالأخوة بين الناس، بالتقوى في التعامل، بخشية الله سبحانه وتعالى في تعامل بعضنا مع بعض، بأن يكون هذا التعامل على أساس القلب السليم، على أساس التعامل الطيب، على أساس أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن تكره لأخيك ما تكره لنفسك.
وبهذه الصفات، وبهذه الأخلاق الراقية السامية، تصبح هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، كما كان الأمر في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلافة الراشدة، ثم كذلك في فترات كثيرة كانت هذه الأخوة الإيمانية هي الأساس في التعامل بين الناس، بعيدة عن كل الشحناء والبغضاء وعن الحقد والحسد.
ولكن اليوم تلاحظون هذا التفرق، وهذه المشاكل، وهذه الاختلافات، وهذه الأحقاد والأضغان، وحب الشر للآخر، تجدون هذه الصفات الذميمة داخل الأسرة الواحدة، داخل المجتمع الواحد، على معظم المستويات، سواء كانت هذه المستويات على مستوى الحكام، والشعوب، وما دون ذلك من الأحزاب والطوائف والقبائل.
هذه آفة عظيمة، حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وهي آفة الأمم، وهي داء الأمم، حينما ينتشر هذا المرض، مرض الحقد والحسد، ومرض الفرقة والنزاع، ومرض الشحناء والبغضاء، يبشر بمرض خطير، وبهلاك هذه الأمة، وبانتهائها، ولكن هذه الأمة الإسلامية لن تنتهي بوصفها، وإن كانت تنتهي قوتها حينما تبتعد مجموعة أو شعب، فحينئذ تنتقل هذه القوة من شعب إلى آخر، وستظل القوة الإسلامية باقية إلى يوم القيامة بمبادئها، وبما رسمه الإسلام لنا من طريق الخير.
أمرنا الله سبحانه على مستوى الأفراد قبل مستوى الجماعات، وعلى مستوى عامة الناس، قبل أن يوجه الأمر إلى العلماء والمتخصصين، أمرنا الله أمراً مطلقاً، بأنه يجب على كل إنسان مسلم أن يكون شعاره الصلح، فشعار الإسلام الذي يريد أن يغرسه في نفوسنا، الصلح خير، الصلح خير.
فإذا أحس المسلم بأن هناك مشكلة داخل الأسرة، أو خارجها، أو بين مؤمن وأخيه، أو مؤمنة وأختها المؤمنة، وجب السعي فوراً إلى الإصلاح بين الناس، كما يقول الله سبحانه تعالى، ويحصر كل الخير في ثلاثة أشياء (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) أي إن مجالسكم ولقاءاتكم، وملتقياتكم، ومنتدياتكم، ومؤتمراتكم، لا خير فيها، إلا إذا كان هذا اللقاء يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بصدقة، أو إصلاح بين الناس، والذي يجلس في هذا اللقاء ولم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر مشارك فيه، ولو كان ساكتاً، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، يجب على الإنسان أن يُعرض، وأن يخرج من هذا المجلس الذي فيه غيبة، فيه ذنب، فيه فرقة والكراهية والعنصرية، إلى غير ذلك مما يبعد بعضنا عن بعض، فالله سبحانه وتعالى أمرنا ألا نجالس وحتى ألا نستمع، إلا إذا أبينا ذلك، وأن نحضر مثل هذه المجالس إلا للإصلاح، وفي رضاء الله، وإن لم نستطيع فالهجر أولى؛ لأنه لا خير مطلقاً في هذه المجالس كما ذكره الله سبحانه وتعالى.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حينما يتحدث عن هلاك بني إسرائيل أن الرجل يجلس بجانب رجل فينكر عليه وينهاه في الأول، ثم يجلس معه في اليوم الثاني فيسكت، ثم بعد ذلك يشترك معه، إلى أن لعنهم الله سبحانه وتعالى على لسان داود وعيسى بن مريم، هذا يعني أن السكوت وعدم الجهر بالحق، يؤدي إلى لعنة الله سبحانه وتعالى، لأننا لم نصلح وإنما شاركنا في الفساد، وعادة الفساد إذا لم يمنع في أول اليوم في أول جلسة ينتشر، ويصبح عادة، ولايمكن أن يمنع بعد ذلك.
لذلك الصلح مطلوب، ويجب علينا وجوباً شرعياً، فإذا سمعنا بمخاصمة يجب علينا المبادرة للإصلاح، لأن الذين يتخاصمون لهم مشكلتان: لن تقبل طاعتهم ولن تستجاب دعواتهم إلا أن يصطلحا، والمشكلة الأخرى إن الخصام ينتشر، فتجب المبادرة للإصلاح، فالصلح خير، الصلح الخير، وهو شعار ووظيفة جميع الانبياء، وورثتهم من العلماء والدعاة بدون استثناء، وإن كان سيدنا شعيب عبر عن ذلك، لكن ذلك الشعار هو شعار جميع الأنبياء (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، أي إن وظيفتهم محصورة في الإصلاح بعد طاعة الله سبحانه وتعالى والتعامل مع الناس، وكلمة “ما استطعت” ليست للتسهيل، وإنما لبيان أن الإنسان يبذل كل جهده، وبكل الوسائل المتاحة، حينئذ تخرج من الإثم، وإلا ما أديت واجبك كما يريده الله سبحانه وتعالى، ولأن الفساد بين الناس ووجود الأحقاد تشتعل وتأكل الحسنات، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحسد “كما تأكل النار الحطب”، والذنوب تأتي بذنوب أخرى، وإن وجدت بدعة تأتي ببدعة أخرى.
والإصلاح يشمل الإصلاح في العقيدة، والإصلاح داخل الأسرة، وداخل الدولة، والمسؤولية جماعية مشتركة، ليحمي الأسرة، والأقارب، والشعوب من التفكك، والإسلام يبدأ في المسؤولية من الفرد إلى الأسرة وإلى الأمة.
علينا أن نصفي أنفسنا، وأن نصبح إخوة، والأخوة ليست خطبة تقال، وليست فقط مشاعر، بل هي حقيقة، ولا بد أن تحس بإخوة أخيك المؤمن، بالإضافة إلى أخيك القريب، فالقريب له حق القرابة وحق الإسلام، وإذا كان جارك فله ثلاثة حقوق، وإذا كان مسلماً فله حق الاسلام وهو من أعظم الحقوق .
رب العالمين أوجب على الأسرة وعلى المنطقة أولًا، فإذا وجدت مشكلة بين الزوج والزوجة، فحكم من أهله وحكم من أهلها، (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) الله سبحانه وتعالى ضَمِن إذا كانت نية الحكمين صالحة، أن يوفق الله بينهما، لذلك كان عمر رضي الله عنه يضرب الحكمين إذا لم يصلا إلى صلح،و يقول: إنه لا بد أن يكون في قلوبكما شيء.
وكل إنسان يكتب له أجر عظيم إن عمل بالإصلاح بين الناس كما يقول الله تعالى (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)؛ لأن في ذلك حماية أسرنا، ومؤسساتنا، ومجتمعنا .
الخطبة الثانية
أراد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تكون قائدة، رائدة، وأن تكون قيادتها في قدوتها، وأن تكون قيادتها للأمم بقدوتها في الأخلاقيات، وأن تكون هذه الأمة متماسكة متحدة، وإن التماسك لا يمكن أن يتحقق مع القلوب الضعيفة، المريضة بالحقد والحسد والشحناء والبغضاء، فأوجب علينا الصلح حتى على مستوى الحكام والشعوب، وأوجب على الحكام واجبات أكبر، أن ينظروا إلى شعوبهم نظرة الأب إلى أولاده، و نظرة الأم إلى أولادها، لأنهم مسؤلون أمام الله سبحانه وتعالى، وأنهم يسألون كما كان عمر يحس، لو أن بغلة تعثرت على دجلة لسُئل عنها عمر، رضي الله عنه، وحينما يكون الإشكال والقتال، يجب على الأمة جميعاً أن تسعى لإطفاء نار الفتنة في كل مكان، وهذا ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به.
ففي سوريا حينما قام الشعب السوري مدة ستة أشهر بمظاهرات سلمية، يطالبون بحقوقهم، والحكماء والعلماء والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أرسل رسائل إلى طاغية الشام بأن يستجيب لمطالب الشعب من الحرية، وحق الاختيار، وأن ينتهي عصر الذل والاستعباد، لكنه قاوم هذه المظاهرات السلمية بالدبابات وبالشبيحة وغير ذلك، وهذا يدخل في قوله سبحانه وتعالى ــ إن كانوا مؤمنين ــ فالشعب والجيش لا يخرجون عن الإيمان من الناحية الإيمانية ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) فكان واجب الأمة أن تبدأ فوراً بالإصلاح، وليس مجرد الفرص المتتابعة للنظام، والتي شهدناها، والنظام يقتل، والشعب يباد، والنساء تنتهك أعراضهن، والأطفال يقتلون ويعذبون، فليس هذا هو الصلح، بل يجب أن تتدخل الأمة وأن تضع حداً لهذا، ولكن لم تفعل ( فإن بغت إحداهما على الأخرى) بغت هذه الطائفة على الطائفة المظلومة، على الشعب، ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)، كان واجب الأمة العربية والإسلامية أن يكون لها جيش، وقوة، كما لأوروبا وأمريكا، أو درع تحمي الجميع، وليس ضد الآخرين، وإنما لحماية حقوقنا، ولكن لم يحدث شيء من هذا، ولعل تحقق بعض الإنجازات من المؤتمر السابق للقمة العربية، وربما يكون وسيلة لأن يبحث العرب والمسلمون في إيجاد قوة تمنع هذا القتال، وتحقق العدل، وتعيد الحقوق إلى أصحابها، وهذا ما نقول بأنها مسؤولية عظيمة، يشترك فيها حكامنا جميعاً، وإن كان بعض حكامنا جزاهم الله خيراً سعوا سعياً طيباً؛ لتحقيق ذلك، ولكن الأكثرية لم تستجب لهذه القضية ولعل الله يهديهم إلى أقوم السبل.
وما يحدث في بنغلاديش من محاكمة علماء المسلمين، الذين تبنوا فكرة وحدة باكستان وبنغلايش الحالية قبل أربعين سنة، يأتي اليوم ابنة زعيم قائد ممن دعوا إلى الفصل بين الدولتين لمحاكمة هؤلاء العلماء و منهم كبار المفسرين، وما الذي استفاد بنغلاديش من الفصل سوى الفقر، نسبة 60% يعيشون على دولار واحد أو أقل في اليوم.
يحاكم اليوم مئات من العلماء والدعاة على هذه الفكرة، علماً أنها مضى عليها أكثر من أربعين سنة، هذا التعسف مؤامرة، يدخل في تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، وأن نبقى في فوضى خلاقة لهم، هدامة لنا.
وما يحدث في ميانمار من قتل شعب بالكامل إنما يعود إلى أمر واحد وهوأن الأمة لم تأخذ بزمام القوة كما أراده الله سبحانه وتعالى، فلو طبقنا شرع الله، لكنا اليوم أمة واحدة ليس كمبادئ فقط، وإنما وحدة حقيقية وأخوة حقيقية.