بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الاخوة المؤمنون
يظن كثير من الناس أن الاسلام العظيم يُكتفى فيه بالايمان والاسلام، والايمان يقتضي الايمان بالاركان الستة المعروفة في الاسلام، والاسلام يقتضي أن يؤدي المسلم الاركان الخمسة، ولكن الحقيقة أن الاسلام لا يُكتفى فيه بهذين الأمرين لأمتنا الاسلامية، التي يريدها الله سبحانه وتعالى أن يكون قدوة للناس أجمعين في أمور الدنيا والدين، لذلك اشترط رسولنا صلى الله عليه وسلم شرطا آخر، وركنا آخر من أركان هذا الدين، غفل عنه الكثيرون، ولم يهتم به إلا قلة قليلة، وهذا الركن الثالث هو الاحسان، وقد ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه سيدنا عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه حيث يقول: (بينما نحن جلوس عند رسول اله صلى اله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس الى النبي صلى الله عليه وسلم، فاسند ركبتيه الى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، تؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استعطت إليه سبيلاً”. قال صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره” قال: صدقت. فأخبرني عن الإحسان؟ قال: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”)
إن الاحسان في اللغة العربية التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم، واعطاه الله سبحانه وتعالى جوامع الكلم، ونزل بها القران الكريم، يطلق الإحسان على خمسة معان أساسية، كلها مطلوبة في هذه الكلمة، ولن تتحق مفاهيم هذه الكلمة الا اذا وجدت هذه المعاني بالتمام والكمال.
المعنى الاول للإحسان أن يكون الانسان محسنا، أي أن يفعل الخير، وأن يفعل ما ينفع الناس، وأن يحب للناس ما يحب لنفسه، فهذا هو بداية الاحسان: أن تحسن الى الناس، أن تدرأ الضرر عن الناس، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر حينما نفى الايمان وقال (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، ولو طبقنا ها المعيار على أنفسنا، وجعلناه ميزانا نزن بها أعمالنا، وتصرفاتنا، وأنشطتنا، لأستطعنا أن نفعل الخير الكثير.
المعنى الثاني الذي يكمل هذا المعنى: وهو درء الضرر، ودرء المفاسد والشرور عن نفسك وغيرك، فالمؤمن دائما يسعى أن يكون خيراً، أن يكون مانعا للشرور، واذا سمع بشرّ، أو ضرر، أو مفسدة، يسعى لدرء هذه المفسدة عن نفسه وغيره.
والمعنى الثالث لهذا الاحسان، الذي هو قمة الاسلام، وبدون هذه المرحلة لن نصل الى القمة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ويريدها الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الامة، وهوالاتقان أي أن الانسان المسلم يجب أن يكون متقنا في عمله (إن الله يحب من المؤمن إذا عمل عملا أن يتقنه)، والاتقان ليس من السنن، وانما من الواجبات، لأن العمل إن لم يكن متقنا يكون ناقصا، ولم يؤدي ما أمر الله به، ولا بد للمسالم أن يكون متقنا في عمله وجهده للوصول الى الكمال، حتى يكتبه الله من المحسنين (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله قد كتب الاحسان في كل شئ) وفي رواية (على كل شئ)، وكلمة “كتب” بمعنى فرض كما في الاية القرانية (كتب عليكم الصيام) أي فرض عليكم الصيام، فلماذا تكون كلمة كتب في الصيام تكون فريضة وفي الاتقان لأمر عادي؟ هذا الأمر أي التقان ليس أقل شأنا من الصيام عند الله تعالى، وقد كتب الله الاحسان في كل شئ ، ويقول الرسول ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) وهذا يدل أنه علينا أن نتقن كل الاعمالفي كل المجالات وبمنتهى الاتقان .
والمعنى الرابع هو الابداع أي أنك تعمل أحسن شئ موجود، وتحاول أن تبدع في ذلك، وتصل الى القمة، وهذه القمة تتغير يوما بعد يوم، وفي كثير من الايات فرض الله تعالى على أفراد هذه الامة من المسلمين أقلية كانوا أو أكثرية مع المسلمين أو غير مسلمين أنه لابد أن يبذل كل جهده للإبداع، حتى يتمكن من الارض، وهذا ما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الملك هذه السورة التي تتحدث عن هذا الكون الفسيح التي جعلها الله آية وعلامة على قدرة الله، سبحانه وتعالى، ثم تحدثت هذه السورة عن أن الملك كله بسمواته وأرضه وما بينهما سخرهما الله للانسان، وأن هذا التسخير لن يتحقق إلا بالابداع والاتقان وبإحسن العمل( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) والتفسير الحقيقي لهذه الاية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يقول يا أمة الاسلام إن امتحانكم على هذه الارض ليس بالقول فقط، فالقول لا ينفع الا اذا كان لله سبحانه نصحا ووعظا، وكذلك ليس بالعمل وحده لأن العمل العادي كل عامل به، ( كل يعمل على شاكلته)، وحتى هذا الامتحان لهذه الامة ليس بالقول الحسن، أو الفعل الحسن، ولإن الفعل الحسن يمكن أن يحافظ على قوة الامة، ولكنه لا يمكن أن يتطور بها، ولا يمكن أن يجعلها امة شهيدة، أمة قادرة، الا اذا وصلت الى هذه المرحلة، ويكون امتحانكم بين الامم، أيكم أحسن عملا، وجاءت كلمة “أحسن عملا ” نكرة، والنكرة دائما نسبية، بمعنى أن أحسن عملكم انتم كفرد أو جماعة أو أقلية او الدولة يجب ان يكون متطورا، فأحسن عمل اليوم يكون أفضل من أمس، وعمل الغد أحسن من عمل اليوم، وهكذا.. لأنه كما قال رب العالمين (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر )، ولم يقل أن يتوقف، لأن التوقف هو عين التأخر، فإذا توقفنا عند مرحلة معينة فقد تأخرنا.
وفي عشرين آية أخرى مثل هذه الاية تتحدث القران عن هذه الامة بأن يكون قوله أحسن الاقوال، وأن يكون اتباعها أحسن الاتباع، وأن تكون عباداتها أحسن العبادات، وأن يكون تمكينه من الارض أحسن تمكين، وأن يكون تعميره أحسن تعمير، حتى في الاختيار من الايات قبل النوم أن يختار ألافضل مع أن الايات كلها فضيلة، وهذا كله لكي يشكل فينا، نحن المسلمين، عقلية متطورة مبدعة، لا ترضى بالحسن، وإنما دائما تتجدد وتحاول أن تكون أحسن في كل شئ: أحسن صورة، ومظهرا، وعلما، وتقني، وصناعة، وتجارة، وبهذه الاحسنية تكون أمتنا خير أمة، وليس الخيرية بالجنس، ولا بالعرق، وإنما بالاعمال الحسنة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) واللام في (للناس) أي لمنفعة الناس، وهذه الخيرية تعود لكونكم تفيدون وتنفعون الناس من المسلمين وغير المسلمين. والقران يستعمل كلمة الناس عادة لغير المسلمين، أو المسلمين وغير المسلمين . والانسان المسلم هو خير بقوله وبفعله وبدعوته، لا يعرف الشر، ولا يعرف الضرر.
واتذكر أني قلت في هذا المكان الطاهر قصة سيدنا يوسف، وكيف أنه استطاع ان يتقدم بالشعب المصري وهو مسلم، وأن يكون له المكانة العظيمة في مجتمع غير مسلم، وكيف استطاع من رجل متهم وفي السجن يعذب، الى أن يصبح عزيز مصر، ويقول له الملك إنك اليوم لدينا مكين أمين، وليس ذلك الا لأنه قام بخدمة الناس ونفع الناس، ولم يكن يقدم هذه الخدمة للمسلمين وإنما يقدمها لغير المسلمين، ولكنه أبدع في ذلك، فأكرمه الله وأحسن اليه
والمعنى الخامس للاحسان هو الرحمة، لأن القران استخدم الاحسان بمعنى الرحمة وربط بين الرحمة وبين التمكين، وبين قدرتك من أن تتمكن من الارض، وذلك في قوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن ألارض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك الا رحمة للعالمين )
الرسول حينما تحدث عن الاحسان، فسر الاحسان بمفجر هذه الطاقات، وبمحرك هذه الطاقات، وبالباعث عن هذه المعاني الخمسة، حينما قال (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وفي رواية المسلم (أن تخشى الله كأنك تراه) وفي رواية صحيحة أخرى (أن تعمل لله كأنك تراه) لذلك فسر أن تعبد بأن تعمل سواء كان عملا للدنيا أو الاخرة وليس عندا فرق بين العمل للدنيا والاخرة. فإذا وصل الانسان الى هذه المرحلة في أي مجالات من الحياة، وكأنك أمام الله سبحانه وتعالى، حينئذ فيستحقق الخير، والابداع، والاتقان، فالرسول فسّر الاحسان بمفجر الطاقات وهوالتقوى وهو رقابة الله سبحانه وتعالى .
واذا قد عاد الناس الى الايمان والاسلام، ولكنه مازلنا لم نصل الى هذه المرحلة، ويوم أن نصل الى مرحلة الاحسان حينئذ نكون قدوة، ونكون خير أمة للناس، يحبنا الناس، ويقول لنا الجميع إنك اليوم لدينا مكين أمين.