أيها الإخوة المؤمنون
إذا عشنا مع القرآن الكريم، ومع السنة النبوية المشرفة، ومع السيرة العطرة، لتبين لنا بوضوح أن الله تعالى أراد أن يعد هذه الأمة إعداداً خاصاً لتكون أمة شاهدة على الناس جميعاً، ولتكون أمة تستطيع أن توصل رسالتها إلى العالم أجمع.
ولذلك هيأها الله تعالى ورباها على الوسيلة التي تضمن نجاح هذه الرسالة في الوصول إلى الناس أجمع، وتلكم الوسيلة والغاية العظيمة في ذات الوقت، وتلك الوسيلة التربوية هي قضية التربية: تربية الأمة تربية الجماعة تربية الدولة تربية الإنسان تربية الوالدين تربية الأولاد تربية كل من يؤمن بهذه الرسالة فرداً أو جماعة تربية على الرحمة.
ولقد وصف الله تعالى ذاته العلية بالرحمة في أكثر من 300 آية في كتابه العظيم، بل تحدث القرآن الكريم عن الرحمة وفيوضاتها وآثارها في أكثر من ألف آية، ناهيكم عن السنة المشرفة.
كما بدأ الله تعالى كتابه العزيز بـــــــ { بسم الله الرحمن الرحيم }، بل بدأ الخلق، وما قبل الخلق بالرحمة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: { إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ } هذا الكتاب موجود ومعلق في العرش، وهذا يدل على عظمة الرحمة في الإسلام.
كما جبل الله نبيه صلى الله عليه وسلم على الرحمة، ورباه عليها، وزكى قلبه ورسالته بالرحمة، بل حصر رسالته صلى الله عليه وسلم بالرحمة { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }.
حصر هذه الرسالة التي فيها العقائد، والتشريعات والأخلاق وبيان كل شيء في الرحمة، لأن كل هذه التشريعات قائمة على الرحمة، وكل أمور العقيدة تتعلق بالرحمة، وكل المبادئ التشريعية والأحكام التفصيلية مبنية على الرحمة.
لماذا هذه العناية القصوى بالرحمة؟
لأن الله تعالى يعلم علم اليقين ـــ وهو الذي خلق الخلائق والطبائع ــــ أن هذه الرسالات كلها لا يمكن أن تصل إلى البشرية إلا عن طريق الرحمة، وفلا يمكن أن تصل إلى قلوب الناس بالقوة، ولا أن تتحكم في تصرفاتهم عن طريق الاضطهاد والقهر والاستبداد، بل عن طريق الرأفة والرحمة.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن مستقبل الأمة، وأنها ستحكم مشارق الأرض ومغاربها، وأن نور الرسالة والهداية ستبلغ أدنى الأرض وأقصاها، حيث يقو: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }. فهذه الرحمة للعالمين، هي التي توصل الرسالة والنور والهداية إلى العالم أجمع، لذا ربط الله تعالى بين وصول الرسالات كلها إلى البشرية كلها أن يكونوا داعة صالحين، عباداً لله تعالى، حتى تصل إلى كل العالمين الرسالة، ويرضخ لها جميع العالمين، ومعنى العالمين يشمل كل شيء من إنسان مسلماً كان أو غير مسلم، وتشمل كل حيوان، سواء كان يطير بجناحيه، أو يمشي على اثنين، أو على أربع.
صور تطبيقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الرحمة.
كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورحمة بلك شيء، في كل تصرفاته وسلوكياته، فقد كان رحمة بالأولاد وأزواجه، وبكل من حوله، ولقد أعطى صوراً عملية ومشرقة ليقتدي به المسلمون، ومن هذه الصور العملية في حياته صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد في مسنده، { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَثِبُ عَلَى ظَهْرِهِ إِذَا سَجَدَ فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ } ، وكان يطيل سجوده، ولا يغير هيئته رحمة به.
وكذلك كان يفعل مع أمام بنت ابنته زينب، حيث أخرج الإمام أحمد في المسند، عن أبي قتادة رضي الله عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَابْنَتُهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَقَالَ مَرَّةً حَمَلَ أُمَامَةَ وَهُوَ يُصَلِّي وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَوْ يَسْجُدَ وَضَعَهَا فَإِذَا قَامَ أَخَذَهَا }.
وكذلك أراد أن يعلم أعرابياً كيف تكون الرحمة، حيث جاءه سلائلاً:{ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ }.
وكذلك أرسى قاعدة عظيمة الرحمة حين دهش الأقرع بن حابس من تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، أخرج البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: { قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ }.
ولقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لفرخ طائر، رحمة بأمه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ قُلْنَا نَحْنُ قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ }.
ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج معترضاً طريق الجمالين والحمالين، ليراقب أيحملون على ظهورها أكثر مما تطيق، فإن كان ذلك نبههم، وعزرهم.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم استقى الصحابة والتابعون الرحمة وطبقوها في كل مجالات حياتهم، وإن الوقت ليضيق عن ذكر قصصهم في تطبيقهم للرحمة.
هكذا ربى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة، حتى شهد الله تعالى للأمة بأنها أمة الرحمة، قال الله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }، وهذه شهادة عظيمة للأمة.
إن ديننا يقوم على الرحمة، الرحمة بكل شيء، بالوالدين، وبالنفس والزوجة، والأولاد، وبكل ما يتعايش معنا في بيئتنا هذه، والأحاديث في الحض على ذلك كثيرة مستفيضة.
إننا اليوم نستغرب من هذه النبتة السيئة التي ظهرت في أمتنا، على مستوى معظم الحكام وبعض التيارات الفكرية المتشددة المكفرة، والتي لا تعرف إلا الجفوة بالناس، والغلظة بالمسلمين، مما يظهر جلياً مخالفتها للدين الحنيف، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهجه، حيث وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة يجب أن نقيس بها تعاملنا، وأن نوزن بها أخلاقنا { من لا يَرحم، لا يُرحم } حتى نتراحم فيما بيننا، فيرضى الله عنا ويرضينا.
الخطبة الثانية:
إذا كانت الرحمة مطلوبة من جميع المسلمين، فإنها أكثر طلباً، وأشد إلحاحاً وأكثر وجوباً وفرضاً بالنسبة لمن قلدهم الله المسؤولية، أي مسؤولية كانت، وعلى جميع المستويات، مسؤولية الأسرة، ومسؤولية الإدارة، ومسؤولية الوزارة، ومسؤولية الإمارة، فكلما كبرت المسؤولية ازدادت الحاجة إلى الرحمة، ولقد علم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم آلية جذب القلوب والأفئدة إليه، فقال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }. كل ذلك من مظاهر الرحمة في الدين.
ولنا في سيرة الأولين خير مثال، حيث كان عمر رضي الله عنه يبكي حتى أثرت الدموع في وجنتيه، وكان يقول: ماذا أقول لربي إذا سألني عن الجياع والأيتام والضعفاء، ولقد سطر التاريخ مقولته المشهورة بخط ذهبي على صحيفة فضية، لو أن شاة بالعراق عثرت لوجدتني مسؤولاً عنها.
إننا اليوم نعاني من آثار الاستعمار والاحتلال لبلادنا، حين خرجوا من بلادنا ورثوها أفكاراً بعثية وشيوعية وعنصرية، ومن آثار تلك الأفكار ما نشاهد كل يوم من طغيان بعض الحكام على شعوبهم، وقتلهم وتشريدهم وإبادتهم بجميع أنواع الأسلحة الفتاكة منها وغيرها، وما الصور التي تبثها وسائل الإعلام عن الجرائم التي حلت بمدينة خان شيخون في سورية إلا دليل على جور الحاكم وتوغله في الإجرام.
لقد ضربت المدينة بالأسلحة المحرمة دولياً كما ضربت من قبل مدينة حلبجة فلم يملك أهلها من أمرها رشداً، ولجأت إلى الاستعانة بقوى أخرى تنقذها من البطش والقتل، بينما عالمنا العربي والإسلامي لا يملك إلا التنديد والاستنكار، وللأسف الشديد أيدت بعض دول عالمنا التي تدعي الإسلام تلك الجرائم النكراء، وإن ربك لهم ولغيرهم لبالمرصاد، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون، وليأتين عليهم يوم يعضون فيه على أيديهم أسفاً وندماً، ولات ساعة مندم.
إذ الركود إلى الظالمين ظلم، ولقد قال علماؤنا: إن الإنسان لا يؤاخذ على النية ولا يحاسب إلا في حالتين:
- الركود إلى الظالمين، { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }.
- إرادة الظلم في مكة المكرمة { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }.
إن المسلمين اليوم ليعانون من مصيبة أخرى، ألا وهي الاستعانة بالآخرين من غير المسلمين، ممن يكيدون بنا ليل نهار.
اللهم أصلح أحوالنا.