أيها الإخوة المؤمنون
لا يوجد شيء في الإسلام بعد العقيدة والأخلاق أعظم من مبدأ العدالة الشاملة لكل تصرفات الإنسان، وكل حركاته، وما يجول في قلبه، فالعدل هو الأساس لبناء هذا الكون كله، وبالعدل وعلى العدل أقام الله السموات والأرضين.
لذلك أمر به أمراً ملزماً وجعل من أهداف جميع الرسالات الإلهية وأهم هدف وعنصر أساسي لرسالات جميع الرسل والأنبياء هو إقامة العدل (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فأنزل الله الكتاب والميزان؛ لتحقيق الهدف الذي هو القسط أي العدل.
ذكر الله تعالى كلمة العدل حوالي 29 مرة وكلمة القسط حوالي 27 مرة أما ما يقابل العدل وهو الظلم والبغي والطغيان فقد ذكره الله تعالى ذلك في مئات الآيات بل جعل الظلم مرجعية للكفر والشرك ( إن الشرك لظلم عظيم) فالشرك على الرغم من خطورته هو ظلم عظيم، والعدل هنا يكون بإقامة العقيدة والأخلاق ومقاصد الشريعة.
وقال علماؤنا جميع القواعد الفقهية وجميع المبادئ نجد لها استثناءات، وقد نجد لها تخصيصاً إلا مبدأ العدل فليس له استثناء لا في حالة الضرورة ولا في الاختيار ولا في حالة الحاجة أو الغنى أو الفقر أو القوة أو الضعف فيجب تطبيقه في جميع الحالات لأهمية العدل في حياة الإنسانية، والله من عظمته وعلى الرغم من كرهه وبغضه للكفر والكفرة يديم دولة العدل، ولو كانت كافرة، ولا يديم دولة الظلم، ولو كانت مسلمة.
إن قول الله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) أمر مطلق يشمل جميع تصرفات الإنسان ولكن الله فصل ذلك تفصيلاً فقال في القول ( وإذا قلتم فاعدلوا) وكذلك في الكتابة (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) وقال في الصلح الذي يحاول الإنسان فيه أن يكتسب فيه الأكثر (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فإن رجعت هذه الجماعة المقاتلة التي حملت السلاح وأعلنت الحرب على الدولة الإسلامية وجب الصلح بينهما بالعدل.
والفرق بين العدل والإقساط أن العدل هو الجانب الإيجابي في تحقيق العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وأما الجانب السلبي العدمي فهو إزالة الظلم، فإزالته يسمى الإقساط؛ لأن كلمة القسط في أصلها تأتي بمعنى الظلم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الجن ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ) فالقاسط هو الظالم، ولكن المقسط هو من أزال هذا الظلم، وفي اللغة العربية هناك باب يسمى باب الإفعال، وهذا الباب في معظم أحواله تكون الهمزة فيه للإزالة، مثل: طاقة ويطيق، فطاقة أي سعة، ويطيق أي أزالت عنه هذه السعة أو الطاقة، فالمقسط هو الذي أزال الظلم.
لذلك يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على أمرين : الأول: إن تاب البغاة و عادوا إلى الحق لأي سبب من الأسباب وجبت معاملتهم بالعدل، والثاني: وجبت إزالة كل مظاهر الظلم الذي كان عليهم في السابق و الذي ربما من أجلها قاموا.
و كذلك أمر الله تعالى بالعدل حتى مع غير المسلمين كما في قوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أن تبروهم أي تحسنوا إليهم وتقسطوا أي إزالة الظلم عن هؤلاء غير المسلمين فنحن لا نحارب ديناً لأجل الدين، إنما نحارب الكافر إذا اعتدى إذا ظلم إذا دعا إلى نشر ضلالته، أما غير ذلك فيجب أن ندعوه ولا نظلمه، بل علينا أن نحسن إليه، والبر هنا كلمة جميلة لا تطلق إلا في بر الوالدين كما تطلق على الله سبحانه وتعالى ( إنه هو البَرّ الرحيم) من البر والإحسان، أي: أنه محسن رحيم.
وقد شدد الله في العدل في الأقوال والكتابة والسلوكيات والمصالحات والمخاصمات فحينما يقضي الرسول يقضي بكونه قاضياً وحاكماً وإماماً، وليس بحكمه رسولاً، ولذلك يقضي بما يقدم له من الأدلة فيقول ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) إذاً القضية ليست شطارة المحامي أو تضليل من بعض,إنما القضية إذا كان لك الحق فدافع عنه، وإن لم يكن لك الحق فلا يجوز لك أن تطلب، وإذا أعطي لك حق غيرك و لو بحكم القضاء، فإن ذلك حرام عليك وقطعة من النار.
فمن مبدأ العدالة إحقاق الحق حتى ولو كان لغيرك وكما يقول الإمام الشافعي ( ما جادلت أحداً إلا وسألت الله سبحانه وتعالى أن يظهر الحق ولو على لسانه) .
وكذلك أمر الله تعالى أن نكون عادلين في الشهادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) فشهادتنا تكون لله والشهادة تشمل حقوق الناس وصوتك عندما تعطيه في الانتخابات البرلمانية والبلدية، فإذا شهدت بالباطل (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أصبح القلب آثما، ولم يكن سلمياً، وبذلك لن تنجو؛ لأن الذي ينجو يوم القيامة من أتى الله بقلب سليم، والقلب السليم هو الذي يحكم بالعدل.
وكذلك بيان الحق شهادة، واليوم الناس ومنهم العلماء يخافون من قول الحق، حتى لا يتهموا بالإرهاب أو حتى يحافظ على ماله أو مكانته، ولكن الله سبحانه يقول: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) ولم يقل رب العالمين: { ومن لم يقلها } فبمجرد كتمان الحق يأثم القلب، وتكون المحاسبة الشديدة عند الله سبحانه وتعالى.
هذه الشهادة التي أناطها الله تعالى بهذه الأمة (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الشهادة بالعدل ولا تكتموا هذا الحق، ويجب قول الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، و لا يجوز للمسلم أن يقول الباطل، ولا يجوز كتمان الحق إلا في حالات الضرورة القصوى التي تقدر بقدرها.
ولأهمية العدل شدد الله مع الحكام والأمراء وأولياء الأمور، وولاية الأمر في نظر الإسلام تبدأمن رب البيت إلى الرئيس فكلهم أولياء الأمور، كل بقدره، وكلهم مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى عن تحقيق العدل.
وكذلك شدد في تحقيق العدل بين الأولاد، ولذلك لما أراد البشير أبو النعمان بن بشير أن يعطيه أرضاً قالت له أم النعمان، أشهد على هذا رسول الله، فلما أشهد رسول الله ، قال: أَكُلَّ ولدك نحلته، أي أعطيته، مثلما أعطيت ولدك هذا؟ قال: لا، فقال الرسول : أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور، فتراجع أبو النعمان عن هذه الهبة.
العدالة تربط عادة بالحكومة، ولكن العدالة أشمل، وقد تكون الحكومة مظلومة في كثير من الحالات فقد يظلم بعض الموظفين الحكومة، إن الحكومة أو المؤسسة قد تعطي الراتب بالكامل بينما الموظف لا يحافظ على أوقات الدوام. وأعجب وأجمل ما قرأته في هذه المسألة فتوى للإمام الشافعي، وهو قد توفي سنة 204 هجرية. سئل الإمام الشافعي عن رجل صلى صلاة الظهر ثم تذكر أنه صلاها بدون وضوء والرجل أجير. والأجير في لغة الفقهاء هو الموظف سواءً كان عاملاً أو رئيساً أو خليفةً، كما قال أحد كبار بني تميم لما خطاب معاوية بقوله: مرحباً بك أيها الأجير، فهو أجير لدى الأمة، وليست الأمة أجراء عنده. فقال الإمام الشافعي رداً على السؤال: إنه يجب على الرجل حقان، الحق الأول: أن يعيد الصلاة فوراً، والحق الثاني: أن يعيد حق صاحب هذا العمل أيضاً، إذا كانت إعادة الصلاة قد استغرقت مثلاً ربع ساعة، فيجب عليه أن يعوض ربع ساعة في آخر دوامه.
فأين نحن الآن من هذه العدالة؟ وخاصة العدالة التي تأخذ عليها المال أو المرتب، ويكون حراماً، لأن هذا سرقة للوقت في مقابل العمل، وهو حرام، حتى لو كنت مظلوماً، لا يجوز لك أن تكون ظالماً هذا شيء وذاك شيء آخر . و الشكوى من قلة الراتب ــ وقد رضيتَ به ـــ لا يبرر هذه السرقة، فيجب عليك الوفاء بعهدك ووعدك، فإن لم تفِ فراتبك الذي تتقاضاه حرام، وليس كما يظن الكثيرون أن المال الحرام هو المال المغتصب أو الرشوة فحسب.
العدالة هي الأساس، وهي البنية التحتية لتحقيق هذا التوازن وتحقيق الخير وبقاء الأمة وتحقيق الحضارة ولأن يكون الناس راضين متحابين، أما في ظل الظلم فتكون هناك ظلمات، وتنعدم المحبة؛ إذ العدل مفتاح المحبة.
ويقول الرسول : ” خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ , وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ) فمع الظلم يكون البغض واللعنة من الآخرين.
الأمة بحاجة ماسة ــــ على مستوى الحكام والمسؤولين، و على مستوى كل من بيديه مسؤولية وإدارة حتى على شخص واحد، أو حتى على إدارة الحيوانات ـــ إلى العدل ولخطورة المسألة يقول الله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)فهؤلاء شهادتهم قائمة على أساس العدل.
ونحن بحاجة ماسة إلى العدل في علاقاتنا الأسرية والاجتماعية، ولن تعود لنا هذه المحبة، ولن يعود لنا الخير كله ولن تكون هناك حضارة، ولن يكون هناك تقدم، إلا إذا أقيم العدل، وهو شرط أساسي لإقامة الأمة، والعدل هو الذي يمسك ويتماسك، ويجعل الأمة متماسكة ومترابطة؛ لأن العدل من الله، وسمى الله نفسه بالعدل.
الخطبة الثانية
إذا نظر نا إلى أمتنا نجد أن أكبر مرض أصاب الأمة في صميمها هو الظلم وعدم العدل، ولاسيما من قبل معظم الحكام الاستبداديين والدكتاتوريين، ومعظمهم جاؤوا بالانقلابات العسكرية بدءاً من مصر وسوريا والجزائر وغيرها الذين وعدوا بكثير من الخيرات لهذه الأمة، ولكنهم عجزوا عن تحرير فلسطين، ولا استطاعوا أن يقيموا العدل ولا الديمقراطية ولا الرفاهية ولا السعادة، وإنما ظهر الفساد والظلم في كل الأماكن، وبسبب ذلك تفرقت أمتنا، وإلا لما حدث في العراق كله، وما حدث كان بسبب الظلم للأكراد سابقاً أو اليوم الذي يحدث من ظلم لإخواننا السنة من قبل الحكومة، وأصبحنا تلعب بنا الأمم مثلما شاءت، ولأن المظلوم ضعيف يغرر به بسرعة، لأن الغريق يتشبث بكل حشيش، ولهذا لا غرابة في لجوئه إلى الغرب.
ولولا السجون والتعذيب والاغتصاب في تونس ومصر وليبيا لما قامت هذه الثورات. هذه الثورات قامت لتحقيق العدل، ولا تريد الأمم الأخرى أن يتحقق العدل فينا، بل تريد بقاءنا في الظلم والمظالم، حتى لا نكون أمة موحدة ومتماسكة .
لذلك لا بد لنا أن نحارب الظلم، وأن نقف مع العدل، فيجب أن نقف مع إخواننا في مصر وسوريا وليبيا والعراق ومينامار وأفريقيا الوسطى .
وقد زارنا وفد وقال لنا بأنه كان هناك أربعون ألفاً من المسلمين، ولم يبقَ إلا ألف، والباقون إما أخذوا و شردوا أو قتلوا أو حرقوا، أمام مرأى ومسمع الجنود الفرنسيون.
لذللك نداؤنا ووصيتنا وهذه وصية الله و عادة ما ينهي الخطباء به خطبتهم وهي خلاصة الإسلام، العدل والإحسان: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )