أيها الإخوة المؤمنون
إذا نظرنا إلى من حولنا في هذا العالم، سواء أكان العالم الإسلامي والعربي أو الغرب، أو بصورة عامة العالم الإنساني، لوجدنا أن المؤامرات تحاك في هذا العالم من كل جانب، وأن هذا العالم بصورة عامة لا يعيش على وئام، ولا على مودة، ولا على حب المصلحة للآخرين، فعلى مستويات الدول الغربية التي يجمعها جامع الدين المسيحي، والمصالح المشتركة وغير ذلك، نراها تعيش هذه العوالم في حالة خصام، وتجسس، وارتياب، وشك بعضهم من بعض، كما تثبت ذلك الوسائل الحديثة من التجسس على كل ما يحدث في أوروبا، على الرغم أن أوروبا الغربية ترتبط بأمريكا بعدة وشائج ومصالح، وأنها تابعة لأمركيا دائماً على مر تاريخها الحديث المعاصر.
أما إذا تجاوزنا هذا العالم إلى عالم بين الشرق والغرب، وبين الغرب والصين وروسيا، فترى أن العالم عالم غريب، من المؤامرات، وتصرف مئات المليارات من الدولارات على التجسس، حتى يعلم كل واحد ما يفكر به الآخر، وحتى يدبر كل واحد للآخر ما يؤدي إلى هلاكه أوضعفه.
أما عالمنا الإسلامي اليوم فلا حديث عن ذلك، لأن عالمنا ليس لديه قوة يحسب له، ويعتبر له، لا في الأمم المتحدة ولا في غيرها من المحافل الدولية، لذا أصبحت أسرارنا ومعلوماتنا متاحة دون الحاجة إلى التجسس أو إلى غير ذلك.
عالم غريب فيه الشك والريبة، عالم خلال أقل من قرن حدثت فيه حربان عالميتان، أكلت الأخضر واليابس، واليوم هناك حربان آخرييان، حرب عالمية ثالثة ضد الإرهاب، والمقصود به الإرهاب الإسلامي، ثم ظهر حرب عالمية مكملة لهذا الحرب، وهو الحرب على الإسلام بصورة عامة، وضد من يمثل هذا الإسلام بصورته الوسطية .
أمام ما يحدث، وأمام ما نرى، يقدم الإسلام فعلاً مشروعه العظيم لحل هذه المشكلة الإنسانية، التي لا يرتاح فيها أحد بهذه الصورة من الريبة والشك، حتى داخل الدول، وحتى داخل أمريكا وبريطانيا وروسيا والصين وداخل دولنا الإسلامية والعربية، وهناك حالات حسد وكراهية وتناحر وحالات تجسس وريبة مما لا تخفى على أحد.
فأمام هذه المشاكل قدم الإسلام قبل 1400 سنة مشروعه الإنساني والإسلامي، القائم على الإخوة الإنسانية، ثم بعد ذلك على الإخوة الإيمانية والإسلامية.
ومن هنا أقر الإسلام مجموعة من المبادئ العظيمة، حتى يعيش الإنسان كأي إنسان، مهما كان، إلا إذا كان متعدياً ظالماً جباراً متكبراً، أن يعيش هذا الإنسان على هذه الأرض، وهذا حقه ، أثبت الله سبحانه وتعالى هذا الحق لكل إنسان، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، حتى ولو كان ملحداً، ثبت هذا الحق بنص القرآن الكريم حيث يقول ( والأرض وضعها للأنام ) أي أن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض ووضعها وقدم فيها كل هذه الخدمات وسخرها للمخلوقات جميعاً، وليست للمسلمين وحدهم، أو للنصارى وحدهم، أو لليهود وحدهم، وإنما لجميع الإنسان، فكل الإنسان له حق في خيرات هذه الأرض، وكل إنسان له الحق في أن يعيش سعيداً مهما كانه دينه وعقيدته ما دام غير متعدٍ على الآخر.
وهذا هو المقصود بالرحمة للعالمين، وليس المقصود بالرحمة للعالمين بأن الناس جميعهم يسلمون، بل إن من سنن الله تعالى أن يظل العالم مسلماً وغير مسلم، (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربي، ولذلك خلقهم ) للاختلاف، لأن هناك جنة وهناك نار، وهناك خير وهناك شر، وهناك شيطان وملائكة، لذلك سيظل العالم بهذه الصورة، ولكن الإسلام يقدم مشروعه لهذا العالم، حتى ينجو من هذا التناحر، حتى ينجو من هذه الريبة والاختلافات والحروب الداخلية التي ليس فيها فائدة.
يقدم الإسلام مشروعه القائم ويبين لهم بأن يعيش هذا الإنسان غير المسلم على أساس الأخوة الإنسانية، دون أن نمس هذه الأخوة، ولها حقوقها، وأثبت وأكد هذه الأخوة بعشرات من الآيات القرآنية، وبمجموعة من المبادئ الأساسية، منها أننا جميعاً من آدم، وبالتالي أننا جميعاً أبناء رجل واحد، وأم واحدة، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى هذه القرابة في سورة النساء وجعلها من الأرحام حينما قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، والأرحام هنا، أرحام الإنسانية ، وبالتالي هذه تجمعنا حتى نعيش بدون صراع وتناحر.
وهذا مبدأ القرابة الأساسية، مبدأ الأخوة الإنسانية، ومبدأ الأصل الواحد، وهو التراب، فكيف يفخر قوم أو شخص على الآخر، وكيف يكون لك فضل على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ثم أثبت أكثر من ذلك، بأن كل إنسان فيه نفخة من روح الله سبحانه وتعالى، (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، فكل إنسان امتداد لآدم، فيه هذه النفخة من روح الله سبحانه وتعالى، فكيف أعتدي على إنسان فيه نفخة من هذه الروح الإلهية التي تنسب إلى الله سبحانه وتعالى نسبة تشريف أو غير ذلك مما قاله العلماء!
هكذا يحاول الإسلام أن تكون هذه الأخوة الإنسانية التي تجمع البشرية جميعاً، حتى يعيش البشر جميعاً في ظل وئام بدل الصراع والحروب المدمرة، وبدل الشك والريبة والتناحر، الذي أصبح الأصل في التناحر بين الشعوب والأقوام.
وبعدما قدم الإسلام هذا المشروع للإنسانية جميعاً، ركز في تقديمه للمسلمين أيضا أن يعيشوا هكذا مع الآخرين، وطبق الإسلام هذا المشروع لما جاء الرسول إلى المدينة المنورة، عامل الجميع بهذه الأخوة الإنسانية، فنادى اليهود والمشركين الذين لايزالون على دينهم، إلى وثيقة المدينة، وهي دستور بكل معنى الكلمة، وهي دستور تتكون من 47 مادة، وحوالي أكثر من 27 مادة تخص غير المسلمين في أن لهم جميع الحقوق التي تسمى اليوم بحقوق المواطنة، بشرط واحد بأن يعيشوا في ظل هذه الأخوة بأن لا يخونوا ولا يعتدوا ولا يقدموا الاسرار لأعداء الإسلام.
قدم الإسلام هذا المشروع للإنسانية وطبقها على نفسه، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، ثم ركز الإسلام على أخوة المسلمين على أنهم بالإضافة إلى الأخوة الإنسانية التي اًيضا تجمعنا، فكل إنسان مسلم في هذا الجانب أصله واحد، وهذه القرابة موجودة، وفيه نفحة من روح الله، وأصله من تراب، فمع كل هذا ركز على الأخوة الإيمانية، حتى حصر الأخوة الحقيقية والمؤثرة، والأخوة التي حينما تتعارض معها أمور أخرى لابد أن تتقدم هذه الأخوة (إنما المؤمنون إخوة)، بهذا الحصر الشديد، وأن المؤمنين هم أخوة حقيقيون، ووضع لهذه الأخوة الإيمانية مجموعة من الحقوق المتقابلة.
ولكن أصبحت مشكلتنا اليوم أن الأخوة الإيمانية أصبحت مجرد كلمة تقال أو شعار يرفع، ليست حقيقة، وليست واقعاً على مستويات كبيرة، فلا تنفذ ولا تحقق، ولا يهتم بهذه الأخوة حينما تتعارض مع المصالح الشخصية أو حينما تتعارض مع المصالح القبلية أو مصالح أخرى، ويضحون بالأخوة الإيمانية من أجل مصالحهم الشخصية أو الحزبية.
ركز الإسلام على هذه الأخوة حتى يعيش المسلمون على أقل التقدير إذا لم نستطيع أن نصلح العالم فلا أقل أن نكون بعيدين عن الصراعات الداخلية وبعيدين عن التناحر والتجسس ومن أن يضر بعضنا ببعض .
خلال 113 عاماص حدثت من الحروب الداخلية داخل العالم الإسلامي من حرب بين دولة ودولة، وحرب بين الدولة وشعبها، حوالى أكثر من 200 حرب وصراع، ومشاكل أكلت الأخضر واليابس، وأحياناً يصل الصراع إلى المجموعة الواحدة، كما حدث في دولنا العربية وإن كان بعضها في خفاء ومعظمها لأسباب واهية.
قريبا كنت في تونس وليبيا، ووجدت الصراعات العربية بالمال والأشخاص والصراعات والحروب والتجسس على أشدها، كأنها الحرب الباردة، بل تراها حقيقة هناك، وترى مجموعة تابعة لفلان، ومجموعة تابعة لدولة فلانية، وصراعات لا جدوى منها، والنتيجة هو خسراننا.
أوروبا لما اتحدت قويت، ونجت من كثير من المشاكل السياسية والاقتصادية، ولو لم تكن أوروبا متحدة لما استطاعت يونان أن تقف على رجليها، بل حتى إيطاليا وإسبانيا كادتا أن تفلسا، ولكن وحدة المصالح جمعتهم ولنا الحق أن نسأل لماذا لا تجمعنا الأخوة الإيمانية أو الوطنية أو المصالح الحقيقية؟ لماذا تبذل مليارات الدولارات لهذه الفئة دون أخرى لتأجيج الصراع؟ مشكلة كبيرة! وكأننا عدنا إلى عقلية ما قَبْل الإسلام، حينها استفادت الأمبراطوريتان الرومانية والساسانية من هذه الصراعات الداخلية، وحولت العرب إلى قسمين: قسم تابع للروم، والآخر تابع للفرس آنذاك، والعرب يتعارك فيما بينهم، ويعبر عن هذه المآساة الشاعر القطامي في قصيدة طويلة، منها هذا البيت الجميل الذي يقول فيه:
وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
فنحن عدنا إلى حد كبير إلى هذه المرحلة، رغم أن الله أكرمنا بهذه الأخوة الإيمانية، وأرشدنا إلى مصالحنا التي تكمن في أخوتنا، وقد يكون في بعض الأحيان اختلاف في وجهات النظر نستطيع أن نحلها، فبدلاً أن نتصارع على جزء من ليبيا والآخر على جزء من تونس أو مصر لما لا نتفق والكل يستفيد، وممكن أن توزع الخيرات الكثيرة على الجميع، ولماذا التشويه في الحقائق، كأنهم ماضون على خطى الطريقة المصرية في تشويه كل من ساهم وساعد على الثورات العربية، دولة قطر قدمت الكثير لهذه الثورات، ومع ذلك الإعلام المضلل يريد أن يشوه هذه الصورة وهذه الحقيقة، حتى لا يساعد أحد الناس الطيبين، والشعوب المضطهدة، ولكن يجب أن نبقى على الحق، وهذا شرف لنا، وطبيعي أن يتصارع الحق مع الباطل والخير مع الشر ولكن يجب أن نبقى مع الحق.
هذا العالم بهذا الشكل لا يتقدم وإنما يتأخر بل يزداد سوءً وتفرقاً.
حينما وقف البعض مع البريطانيين في 1900 ضد العثمانيين فبدل أن يتحد العرب، قسّموا العرب من خلال اتفاقية سايكس بيكو إلى 22 ولاية، معظمها تحت إمرة بريطانيا، وأعطوا أغلى أرض بعد الحرمين وهو فلسطين والقدس الشريف لليهود من خلال وعد بلفور.
ماذا استفادت الدول التي ساعدت مما يحدث في مصر، وانظر الى ما وصل إليه العرب بعد ما حدث في مصر، لأن مصر قوة إذا أُهملت لا تستطيع العرب أن تفعل شيئاً، فلم نستطيع أن نؤثر على الغرب ولا على الأمم المتحدة في شأن سوريا، ولا في غيرها.
الخطبة الثانية
ما يحدث في عالمنا العربي وخاصة مع الربيع العربي، شيء تجاوز ما يتصوره العقل من بذل المليارات من الدولارات في سبيل إفشال هذه الثورة، وفي سبيل إفشال الربيع العربي، وأنا لا أشك بأن هؤلاء قد لا يعلمون ولكنهم أيادٍ حقيقية تنفيذية لمصالح الصهاينة وأعداء الإسلام، لأن هؤلاء يعلمون علم اليقين بأن هذه الأمة لا يمكن أن تنهض أو تتقدم إلا إذا أصبحت أمة فيها الحرية، وفيها الإحساس بكرامة الإنسان.
أوروبا ظلت آلاف السنين في جاهلية جهلاء، ولم تنجح إلا حينما اصلحت نظامها السياسي والتعليمي، وقد نختلف في بعض الأمور، ولكن المنهجية الأساسية في الحرية والإصلاح السياسي، هم تقدموا ولكننا ما زلنا نخاف ولسنا مطمئنين، فكيف يبدع الإنسان وهو خائف على نفسه وعرضه.
كيف يحس هؤلاء المصريين في السجون والمعتقلات، وكيف يحس بالأخوة والجانب الآخر يشمت فيهم، بل يفتي بقتلهم، واليوم تتفق ضدهم ثلاث جهات من العلمانية المتشددة والمدعين من السلفية ومن الصوفية، فلا أدري كيف يجتمع ثلاث أضداد ويتفق مع بعضهم البعض! وأنا أقول المدعين للسلفية لأن القادة السلفيين الشرفاء ضد هؤلاء المدّعين، فهؤلاء المدعون بعيدون عن السلفية الحقة .
نحن نحتاج إلى إعادة النظر، ولا أتكلم من الجانب الإسلامي فقط، وهو مهم، بل من جانب الإنساني والوطني والمصلحي، وإلا ستصبح خيراتنا مملوكة لغيرنا.
ومع ذلك فالإسلام ينتشر فقد عقد في بريطانيا مؤتمر وحضره كبار المسؤولين، واعترفوا بعظمة الاقتصاد الإسلامي، على أنه هو المنجى والمنقذ لهذه الازمة الاقتصادية العالمية، وهذا يدل على تأخرنا كأشخاص ولكن الدين يتقدم.