بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
فقد أولى الإسلام عناية منقطعة النظير بتوفير الأمن والأمان للفرد والمجتمع والدولة ، وبتحقيق المصالح ودرء المفاسد ، ورفع الأضرار وإزالتها وعلاجها من خلا الحماية والوقاية ، والرفع والإزالة ، ولذلك حرم كل أنواع الضرر الواقع على الإنسان في ماله وبدنه ونفسه ، وعرضه وكل ما يمسه ، بل إن من أهم مقاصد الشريعة تحقيق المصالح والمنافع للفرد والجماعة ودرء المضار والمفاسد عنهما .
ولم يكتف الإسلام بالوعظ والترهيب والتربية الروحية على الخير ، ودرء الضرر وغنما وضع عقوبات رادعة على ذلك من خلال الحدود والقصاص والتعزيرات الزاجرة ، بل أضاف إلى ذلك التعويضات المناسبة للمضرور الذي أصابه ضرر ، أو لورثته في حالة وفاته .
وانطلاقاً من ربط أحكام الشريعة بواقعنا ، وتنزيلها على المستجدات العصرية طلبت مني رئاسة المحاكم الشرعية كتابة بحث حول التعويض عن الضرر المعنوي (الأدبي) ليقدم إلى ندوتها المعقودة في أواخر اكتوبر1999م التي تناقش القضايا التي تهم المحاكم والمجتمع القطري المسلم .
وقد أضفت إليه فيما بعد إضافات معتبرة ، فظهر البحث في ثوبه الحالي ، وحليه القشيب الذي يتناسب مع أهمية الموضوع .
والغريب أن المصطلح ولو كان جديداً ، وأن تطبيقاته القانونية أيضاً حديثة لكن فقهنا العظيم نجد فيه نصوصاً يظهر منها اعتباره ، وأحكاماً يتضح منها العلاج لمثل ما يسمى بالضرر المعنوي ، بل نجد حادثة غريبة تشبه تماماً ما يحدث في عصرنا الحالي من التعويض عن الضرر المعنوي ، وهو ما ذكره العلامة ابن الجوزي والذهبي وابن مفلح مما حدث في مجلس الوزير الفقيه الحنبلي ابن هبيرة حيث اتفق مع جماعة من الفقهاء على حكم معين ، فخالفهم فقيه مالكي ، فقال له الوزير : أحمار أنت ؟ الكل يخالفونك وأنت مصر .
وحينما انتبه الوزير لهذه الكلمة التي صدرت منه انزعج كثيراً وبكى وقال : فليقل لي كما قلت ، فما أنا إلاّ كأحدكم ، فقال المالكي : أنا أولى بالاعتذار ، وقال الوزير : القصاص ، القصاص .
فقال الفقيه الشافعي الدمشقي (ت563هـ) الذي كان شيخ الشافعية في ذلك الوقت : ( إذا أبى القصاص فالفداء) .
فقال الوزير : له حكمه ، فقال الرجل : نعمك عليّ كثيرة .
فقال الوزير : لا بدّ ، فقال الرجل : عليّ دين مائة دينار .
فقال الوزير : يعطى مائة دينار لدينه ، ومائة لإبراء ذمتي .
وقد عقب ابن مفلح على ذلك بقوله : ( ذكره ابن الجوزي في تأريخه ، فدل على موافقته ، ثم قال : وقد يؤخذ منه الصلح بمال على حق آدمي كحد قذف وسب) .
كما نجد نصوصاً تقرب لنا الموضوع ـ كما سنشاهد فيما بعد ـ وفي ذلك رد على من أنكر ذلك حتى إنه جاء في الموسوعة الفقهية : (ولم نجد في الكتيب الفقهية أن أحداً من الفقهاء تكلم عن التعويض المالي في شيء من الأضرار المعنوية) .
وأرجو أن أكون قد وفقت في إثراء الموضوع بما يستحقه من أهمية ، سائلين الله تعالى أن يلهمنا الصواب وأن يلبس أعمالنا كلها ثوب الإخلاص ، ويعصمها من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .