الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ….
وبعد
فإن الأمة الإسلامية حركتها عقيدتها نحو الاندفاع لتطبيق شريعتها في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ثم تبين أن هذا التوجه يعضده العقل ، وأنه وحده يحقق مصالح المجتمع في الدنيا والآخرة ، وذلك بعد ما غيبت عنها عدة عقود ، وفرض عليها المحتلون قوانينهم ، وأنظمتهم المدنية والاقتصادية ، فالدول الاسلامية التي احتلها الفرنسيون فرضوا عليها قوانينهم الفرنسية ، والدول التي احتلها البريطانيون فرضوا عليها القوانين الانجليزية ، والدول التي احتلها الايطاليون ، أو الهولنديون ، أو الاسبانيون ، أو الاستراليون فرضوا عليها قوانينهم السائدة ، حتى كانت هذه القوانين تطبق بلغتهم ، ثم ترجمت ثم عدلت في بعض موادها ، وبقى جوهرها وروحها في معظم البلاد الاسلامية .
وكان نصيب القوانين والآنظمة الاقتصادية الأوروبية في التطبيق والبقاء والاستمرار هو نصيب الأسد ، حيث ظلت مطبقة دون تعديل يذكر ، حيث ظلت البنوك الربوية ، وشركات التأمين التجاري معمولاً بها على الأسس والأنظمة المعمول بها في الغرب دون أي خلاف يذكر فتكونت لدى معظم المسلمين ازدواجية غريبة ، حيث يقرأ القرآن الكريم فيرى آيات الربا أمام عينيه ، ويسمع في المساجد ، ونحوها ، ومن التلفاز ، والاذاعات ، من الأئمة والخطباء والدعاة والوعاظ الآيات والأحاديث الكثيرة في حرمة الربا ، والغرر ، والميسر ، وسائر المحرمات ، ولكنه يمارس عمله الاقتصادي مع البنوك الربوية ، وشركات التأمين التجاري ، من خلال التعامل بالربا ، والغرر ، فيعيش بشخصية مزدوجة.
إلى أن ظهرت الصحوة المباركة فدفعت أصحاب الفكر ، والمال نحو الاقتصاد الاسلامي ، وإذا بهم يكشف لهم خلال تجربة قصيرة أن الاقتصاد الإسلامي قد نجح في دائرة المصارف الاسلامية ، لذلك فهم قد خطوا خطوات جادة أخرى نحو التأمين الاسلامي ، او التأمين التعاوني أو التكافلي ، فوجدوا النجاح أيضاً في هذا الميدان .
ونحن اليوم أمام كمّ هائل من المؤسسات المالية الاسلامية المتنوعة من المصارف والتأمين التعاون ، وشركات الاستثمار ، والتمويل ، والإجارة …. .
وفي اعتقادي أننا خرجنا ـ إلى حدّ كبير ـ من دائرة التنظير إلى عالم التجارب الفعلية ، ومن التجارب إلى دائرة الاطمئنان والثقة بصلاحية الاقتصاد الاسلامي ، ومن دائرة الخوف من الفشل إلى الثقة والأمل بالنجاحات الكبرى ، ومن دائرة القلة والضعف إلى دائرة الكثرة والقوة إلى حدّ كبير ، فقد بدأنا في عام 1975 ببنك واحد ، ومبلع في حدود عشرة ملايين دولار إلى مئات البنوك ، ومئات المليارات من الدولارات المستثمرة بطرق اسلامية .
لذلك فأحوج ما نكون إليه هو الخروج ـ من حيث المبدأ ـ من دائرة فقه الرخص والمخارج إلى فقه العزائم ، وفقه التأسيس والنباء ، ومن البدائل القريبة أو المتشابهة لما لدى المؤسسات المالية التقليدية إلى المنتجات الأصيلة وإلى اقتصاد التنمية الشاملة ..
وفي عالم التأمين خطونا ـ والحمد لله ـ خطوات طيبة ، وترسخ مفهوم التأمين التعاوني والتكافلي في نفوس المسلمين ، واعترف به الآخرون ، وازداد التعامل به بشكل ملفت للاعجاب ، ولذلك فهو أيضاً يحتاج إلى تواصل الدراسات لمزيد من التأصيل والتطوير ، وكلنا أمل في أن يساهم هذا الملتقى الذي تقيمه الهيئة الاسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل في التأسيس والتأصيل والتطوير .
ويتكون بحثي هذا من مبحثين ، نتناول في المبحث الأول : حقيقة التأمين التعاوني ، من حيث : مفهومه ، والفروق بينه وبين التأمين التكافلي ، والتأمين التجاري ، وشروطه ، وتوصيفه الفقهي ، ونحو ذلك ، كما أننا نتناول في المبحث الثاني : الضوابط والمعايير الشرعية للتأمين التعاوني مع بيان المعوقات والمخاطر .
والله تعالى أسأل أن يكسو عملنا ثوب الاخلاص ، وأن يلهمنا الصواب ، ويعصمنا من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .