أيها الإخوة المؤمنون
كل ما ذكرناه في الخطب السابقة حول أهمية وحدة هذه الأمة ووعيها الجماعي وإحساسها بالمسؤولية وكذلك ما ذكرناه من الواجبات والوظائف المنوطة بهذه الأمة، كل ذلك قد جمعه الله سبحانه وتعالى من خلال سورة واحدة، أشرنا إليها في الخطبة السابقة، ونشرحها في هذه الخطبة بإذن الله تعالى .
هذه السورة لها ثلاث آيات فقط ولكنها تبين لنا منهجاً متكاملاً لهذه الأمة الإسلامية، موضحة حقيقة هذه الأمة، ومنهجها وبرامجها ورسالتها ووظيفتها ودورها في الحياة. وإذا تخلت عن هذا المنهج ماذا يكون مصيرها، كل ذلك وغيره في سورة العصر.
لذلك ما كان أحد من الصحابة يفارق أخاه في الغالب إلا قرأ أحدهما سورة العصر، ثم تعاهدا على ما تقتضيه سورة العصر، ثم تفرقا وسلم أحدهما على الآخر.
والإمام الشافعي يقول: لو أن الناس تدبروا هذه السورة لكفتهم . وفي قول آخر له أيضاً يقول : لو أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكفت الأمة؛ لأنها تبين منهج الحياة.
هذه السورة في آيتها الأولى يقسم الله تعالى بأهم شيء في هذا الكون من الموجودات الجامدة والمتحركة حيث يقول الله سبحانه وتعالى ( والعصر) بهذه الصورة المطلقة، أي الزمن كله، وهو الأساس في الحياة وفي الحركة، فحركة الكون وكل الحركات مرتبطة بالزمن وبدون الزمن لا يمكن أن تكون هناك حسبة أو حساب لأي عمل أو نشاط.
هذا الزمن المطلوب الذي يستوعبنا جميعاً وهو الأساس في كل شيء بالنسبة للنشاط الإنساني، ويمكن أن يفسر هذا اللفظ ( العصر) أي بزمنك أنت أيها المسلم أو غير المسلم، ويمكن أن يقال زمن هذه الأمة، هل هو زمن الربح أو الخسارة للأمة أو الفرد أو الجماعة، كل ذلك تقتضيها هذه الكلمة لأنها كلمة عُرّفت ب”ال” التعريف، ويمكن أن يراد ب”ال” الإغراق أو الجنس أو العهد، ثم بعد أن أقسم الله بهذا الزمن الذي هو وعاء أنشطتنا كلها ووعاء حركتنا كلها يحسم لنا القضية بصورة محسومة ( إن الإنسان لفي خُسر) هذا الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وجعله خليفة في الأرض وأكرمه بنفخ الروح فيه ( إذا سويته ونفخت فيه من روحي ) وأسجد له الملائكة، وأكرمه الله تعالى بالعقل والوحي، كان المفروض أن يكون هذا الإنسان مهتدياً لكنه بسبب شهواته (إن الإنسان لفي خسر ) بدأ كقاعدة عامة، بأن كل إنسان هو محاط بالخسارة، ولفظ “في” للظرفية، والظرفية هو الوعاء المحيط بالشيء تقول الماء في الإناء، أي الإناء يشمل هذا الكائن أو المظروف من جميع الأطراف، ولكنه دائماً في الظرفية الفوق مفتوحاً، فكأن الله سبحانه وتعالى يشير في بداية هذه السورة حتى في نفس الكلمة التي استعملها (في خسر) بأن كل ما يحيط بالإنسان من تحته وشماله وجنوبه وشرقه وغربه يجعله في خسارة إلا إذا يرفع رأسه إلى السماء فحينئذ يستطيع أن يقضي على كل ما يحيط به من كل جانب من خلال علاقته بالله سبحانه وتعالى ومن خلال علاقة القلب وارتباطه مع الله وحينئذ تهون الأموال والشهوات ويهون الجاه وكل شيء في سبيل إرضاء الله تعالى وفي سبيل أن الإنسان لا يخسر رضاء الله وإن خسر رضاء الناس جميعاً وإن كان في العمل سخط الناس.
والظرفية تدل أيضاً على الإحاطة الشاملة لأنه هو الإحاطة المتماسكة والقوية وبدون ذلك يتسرب الماء وبالتالي لم تتحقق الظرفية، هذا الكم الهائل من وسائل الخسران والإحباط تستطيع أن تهدمها وتتجاوزها فقد أوضح القرآن الكريم كيف الطريق إلى النجاة من هذا الخسران وتجعلها بدون قيمة وذلك بأن تتوافر فيك هذه الشروط الآتية : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ).
ومن عادة القرآن الكريم حينما يبدأ بقضية أو قاعدة أساسية معناها هذه هي الأساس والمعنى أن الإنسان في الخسارة إلا هذه الفئة وهم قلة ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) وحتى لو آمنوا في بعض الأحيان يكون إيمانهم فيه غبش وإلى آخرها.
لذلك القلة إذا ننسبها إلى العالم هي التي تكون فائزة هذا الفوز العظيم من هذا الإطار ومن هذا الكم الكبير من الخسارة المحيط بك كأنها جدران مسلح قوي يحيط بك من كل جانب.
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) هذا الاستثناء يحقق كل مواصفات هذه الأمة ومنهجها وبرامجها ورسالتها وكل ما يدور في فلك هذا الدين وما يحقق للإنسان من قوة وعزة وكرامة وما تتضمنها هاتان الآيتان اللتان ذكرتا بعد كلمة (إلا) التي هي للاستثناء.
ونلاحظ رغم أن “الإنسان” هنا اسم جنس للإنسان وهو فرد ولكن الله حينما استثني لم يستثن بصورة مفردة وما قال ( إلا الذي ) وربما المقام وما يتوقعه الإنسان أن يكون الاستثناء للشخص مما يدل على أهمية الجماعة وأهمية الأمة والضمير الجمعي والوعي الجماهيري والإحساس بأنك جزء من هذه الأمة وأن الفرد لا يمكن أن ينجو من الخسارة أو أن يتجاوز هذا الكم الكبير من الخسارة حتى لو آمن أصابه شيء من المشاكل لأن الإنسان ضعيف بنفسه قوي بإخوانه وجماعته وأمته.
وهنا يربي الإسلام الإنسان على حب الجماعة وعلى الجزء من جسد الأمة ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئاً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث القوم الذين استهموا السفينة، فكلنا في السفينة فإذا نجت السفينة نجونا وإن غرقت السفينة كلنا غرقنا، فالقضية جماعية وربط الفرد بأمته وليس ربط الأمة بأي شيء آخر ولا نشك بأن القبيلة مهمة والقومية مهمة ولكنها في إطار أن تخدم القبلية والقومية الأمة والوطن ولا تكون عقيدة خاصة وأيديولوجية خاصة تحل محل أيديولوجيات أخرى.
كان يذكر بأن القبائل في اليمن وأنه لا خوف عليها ولكن حينما تربط الجماعة بالقبيلة والقبيلة برأس فيمكن أن يشترى هذا الرأس وهذا ما حدث بالنهار مع الحكومة وبالليل مع الحوثي ولا مع جهة أخرى ولكن حين تربط القبيلة بالله لا تسطيع ذلك وحينئذ تخدم القبيلة مشروع الأمة.
في أمريكا توجد جميع أطياف الناس من أوروبا وأفريقيا ومن كل القارات ولكن استطاعوا من خلال تربيتهم الدنيوية أن يجمعوهم على أساس المواطنة فتكونت أكبر دولة ولا يمكن أن تتكون الدولة على أساس قومي أو قبلي فقط بل يجب أن يكون انتماؤنا الحقيقي للإسلام والإيمان ولأمتنا ثم بعدها تأتي المسائل الأخرى كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم واستخدمها للنفس فكان تعطي الراية للقبائل ولكن في إطار بوتقة الإيمان.
(إلا الذين آمنوا ) الجمع وليس الفرد، والجماعة ليست على أساس الجنس أو الأرض، بل على أساس الإيمان والمواصفات الإلهية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ).
كل المشاكل جاءتنا من هذا الباب وكانت الأمة واحدة وتقود العالم، يقول برنارد لويس: ما كان المسلمون يعرفون الانتماء القومي إلا في إطار الإسلام ولم تكن القومية أيديولوجية تجمع على أن استطعنا نحن من خلال غزونا الفكري أن نغرس هذه الفكرة منذ عام 1850. فبدأت الحركات الثورية والقومية والطورانية تشتغل وتغذيها اليهودية بالنسبة للقوميين الأتراك والمسيحيين بالنسبة للقومية العربية واستطاعت هذه الأيديولوجية أن تفكك الدولة العثمانية.
ثم بعد ذلك تفككنا على أسس أخرى وتفرق العرب وحدهم إلى 22 دولة، وهكذا بقيت الشعوب والأمم، ومزقت بعض الشعوب لثأر تأريخي مثل الأكراد الى أربع أو خمس دول وكل ذلك من أجل تمزيق الأمة.
فخسارتنا لن تزول إلا إذا كان الانتماء لهذه الأمة التي من أهم مواصفاتها الإيمان بالله والإيمان بكتبه رسله وما ذكره القرآن الكريم من هذا الإيمان.
وحينما يقول القرآن ( إلا الذين آمنوا ) عبر الله – بالإضافة إلى الجمع – بصيغة متجددة وهي الجملة الفعلية. والجملة الفعلية في اللغة العربية دائماً دليل على التجدد والجملة الاسمية للثبات، فهذا الإيمان متجدد ( يا آيها الذين آمنوا آمِنوا) أي جددوا وفعلوا إيمانكم أي رسخوا إيمانكم واجعله فاعلاً في نفوسكم وتصرفاتكم.
فهذا الإيمان ليس أمراً خامداً، بل لا بد أن يتجدد في كل لحظة من خلال التصرفات ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) فيزيد الإيمان بالتطبيق وبالعمل، وما كان أحد من الصحابة يقرأ عشر آيات إلا حفظوها وتدبروها ثم عملوا بها. وبالتالي يتجدد الإيمان بالذكر باللسان وسلامة قلبك وحبك للناس وبالتصرفات الطيبة وبالإنجازات العظيمة وكل في مستواه.
والإيمان هنا بما أنه لم يذكر المفعول به أي الإيمان بكل ما تقتضيه أي الإيمان الكامل وكما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ( الإيمان بضع وستون وفي رواية بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) فهذا من عمق الإيمان وكم يسوؤنا حينما نتمشى وخاصة في العطل أن نرى مذبحة في القاذورات وبقايا الأكل وعلب المشروبات ترمى على الأرض مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إماطة الأذى من الإيمان، فلا إله إلا الله أعلى شعبة من الإيمان أي المكون الأساسي للإيمان وأدنى مكون وشعبة هي إماطة الأذى.
وفي اللغة حينما تجتمع كلمتان تفرقتا، وإذا انفردتا اجتمعتا مثل الإيمان والإسلام فإذا ذكر الإيمان يراد به الإسلام كله وإذا ذكر الإسلام وحده يراد به الإيمان والإسلام والإحسان.
هذه الجزئيات لها تاثير في عقليتنا والناس يفهمون عقليتنا من خلال ذلك.
والزمن هو الحياة فالالتزام بالمواعيد والوقت حياة والغربيون أول ما بدأوا حضارتهم وضعوا لها ثلاث شروط أساسية: تقديس الوقت وتقديس العمل وتقديس الإبداع.
وكذلك الإيمان ومن مقتضيات الإيمان العمل الصالح.
نكتفي بهذا القدر ونرجو الله أن يوفقنا بشرح ما تبقى في خطب أخرى مبيناً هذا المنهج المتكامل للإنسان من الخروج من هذه الخسارة.
الخطبة الثانية
أثبتت الدراسات العلمية بأن الأمة أول ما تبنى تبنى على المنهجة والتفكير وكما يسمون على الأيديولوجية التي تجمع وتحرك وتفعل، وبدون هذه الأيديولوجية التي تحرك الأمة وبدون المنهجية العملية لهذه الأيديولوجية تصبح الأمة في الضياع.
لذلك حينما تساهل المسلمون في منهجيتهم، وفي كيفية التطبيق وصلوا إلى ما وصلوا إليه وحينما كنا جادين وملتزمين بكل شعب الإيمان حتى هذه الجوانب الجميلة فانظر إلى حضارتنا الإسلامية وكيف قامت هذه الحضارة فهذه الحضارة قامت على أساس المشاركة الجمعية لهذه الأمة، الدولة كانت تقود وتحقق الأمن والأمان، أما الأمة فهي التي تحقق الحضارة من خلال مؤسساتها التي تسمى اليوم مؤسسات المجتمع المدني التي كانت تصل في عصر هارون الرشيد وما بعده أنه مثلاً في مجال الوقف أنه كانت هناك وقف لكل ما تسمى التنمية الشاملة من تنمية الصحية والتعليمية والاجتماعية والتنمية العاطفية حتى وصل الوقف للفقراء كما فعل نور الدين الزنكي فقد وقف قصراً له للفقراء بحيث يأتيه الفقراء للتفرج والأنسة والفرح وبعضهم ينامون في غرف القصر حسب تسلسل وإدارة حتى كانت هناك أوقاف خاصة للتعويض عما خسره الفقراء من الخادمات والموظفين، وكانت هناك وقف للقطط والكلاب الضالة وكذلك لخيول الجهاد وفاء لهم ولخدمتهم في الجهاد ونحن لا نكرم اليوم حتى الإنسان الذي خدمنا لسنوات وحينما يتقاعد لا نجدد له إقامته يا سبحان الله.
واليوم توجد في الغرب مئات الآلاف من المؤسسات المدنية التي تبني وهي التي تقوم بأعمال جليلة في النواحي الاجتماعية وما أشبه ذلك.
وكما أقول دائماً نحتاج إلى إعادة النظر في تربيتنا وعودتنا إلى هذا المنبع الجميل فالإسلام يقوم على الجلال والجمال .
ونحمد الله اليوم بدأت حركة بفضل الله وبدعاء أمثالكم في المملكة السعودية وقطر وباقي دول الخليح وبعض الدول الإسلامية لتحقيق الحق ولمِّ الشمل في اليمن وهم أصل العرب وخدموا الإسلام ونشروا الإسلام في كل أندونسيا وماليزيا من خلال الدعاة من حضرموت وغيرها فلهم فضل على الأمة المسلمة و يجب على الأمة الإسلامية أن نهتم بهم؛ رداً لجميلهم.