أيها الإخوة المؤمنون
أكرمنا الله تعالى بأشرف وأكرم وأعظم ليلة تمر على البشرية جمعاء، منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تكفل الله تعالى بذاته العلية بيان شرف هذه الليلة فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
والقدر في اللغة العربية على ثلاث معانٍ:
تأتي هذه الكلمة بمعنى الشرف، وبمعنى الكرم، وبمعنى التقدير والاحترام والتبجيل، فهذه ليلة ذات شرف وقدر وكرم، وليس لها شرف ذاتي، إنما هي كغيرها من الليالي، حيث تبدأ من غروب الشمس وتنتهي بطلوع الفجر، وإنما شرفها مكتسب لما حدث فيها من خير عميم للأمة الإسلامية، حيث أنزل الله تعالى فيها القرآن الكريم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
ومن هنا تتجلى خيرية هذه الأمة في أمرين:
الأول: نزول القرآن الكريم عليها.
والثاني: الالتزام بتعاليم القرآن الكريم والتمسك به.
وهذا ما عناه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، وكلمة " قومك" تشمل كل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وهي قوميتنا التي نعتز بها؛ إذ هي في الإطار الإسلامي، وقد كان الواحد من المسلمين يمشي بها في بقاع العالم كله، ويطوف بلاد الله الواسعة دون ان تقف في وجهه الحدود المصطنعة بأيدي أعدائنا من خلال اتفاقية سايكس بيكو.
كما تتجلى خيرية الفرد في تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتدبره وتعليمه، قال صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
إذا أردنا أن نحيي هذه الليلة الكريمة فليكن بالقرآن الكريم والالتزام بتعاليمه، وبالاتباع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان خلقه القرآن، وكان قرآناً يمشي على الأرض، وهذا هو الشرف العظيم.
وأما القدر بمعناه الثاني" التقدير" فقدر الأمة ومصيرها مرتبط بالقرآن الكريم، فحين تكون الأمة مع القرآن الكريم تأتي البشائر، وتتحقق الانتصارات، ومتى ما تخلت الأمة عن القرآن الكريم أدبها الله تعالى وعذبها عذاباً شديداً، حتى تفيء الأمة إلى رشدها من خلال التمسك بكتاب ربها سبحانه.
والمعنى الثالث للقدر بمعنى الضيق، أي إن الأرض تيق بالملائكة التي تنزل سلاماً وأمناً على الأمة الإسلامية من أول الليلة حتى مطلع الفجر.
إن الله تعالى رطب شرف هذه الأمة وقدرها ومصيرها وعزتها وكرامتها بالقرآن الكريم والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي تجعلها أمة راشدة، وليست التبعية للغرب ولا الشرق، وإن كانت الأمة الإسلامية مطالبة برعاية الأنفع والأصلح من مصالحها مع غيرها من الأمم، ولكن وحدتها وعزتها في دين الله تعالى والالتجاء إليه والتوكل والاعتماد عليه وحده سبحانه.
والتاريخ يذكر أن الأمة حين كانت مع ربها سبحانه وتعالى ومع قرآنها كانت لها الكلمة الأولى في العالم، وكانت هي المربية لسواها من الأمم، ومن ذلك ما رواه أهل السير والتاريخ أن امرأة نادت من عمورية " وامعتصماه" فلامست تلك الصرخة بلاط قصر الخلافة في بغداد، فهب المعتصم لنجدتها وفك أسرها من الروم.
واليوم قد تخلت الأمة عن هذا الشرف العظيم وانحنت شرقاً وغرباً، وتمايلت شمالاً وجنوباً، واستجابت لك ناعق تحت أي مسمىً كان، وقبلت بالذل والتبعية والتنازل والانبطاح، مما جعلها في دوامة لا تدرك لها مخرجاً.
إن الأمة كلما ابتعدت عن دائرة الاعتماد والتوكل على الله تعالى ازادت ضعفاً وازداد العدو قوة، والعدو لا يفهم سوى لغة واحدة، ألا وهي لغة القوة والأمة القوية، وهذه الأمة هي المقصودة بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، فليست الحرب شعاراً لنا، وإنما شعار الأمة الإسلامية هو الدفاع عن القيم والدين والعزة والكرامة.
قال الرازي رحمه الله تعالى: تدل هذه الآية على أن الأساس هو السلم، والقوة ركن أساس في السلم لهذه الأمة، فحين تكون الأمة قوية ذات طابع سلمي وسلاح متطور واقتصاد قوي ترهب عدو الله تعالى وعدوها في أن تطمع بها وبخيراته، وهي ما تسمى اليوم بقوة الردع الاستراتيجي.
الأمة اليوم في أضعف نقطة في كل المجالات، متفرق حتى النخاع، مستضعفون إلى النخاع، أموالنا ليست لنا، وليست بأيدنا، واستطاع العدو أن يحدث شرخاً في صف وحدتنا حتى مسميات كثيرة جداً.
ونتيجة لتفرقنا احتلت القدس، وكيف لا نخجل اليوم من أنفسنا وقبلتنا الأولى تحت وطأة الاحتلال.، والغرب كله لا يعبأ بنا، وتأتي أمريكا على مرآى العالم وسمعه وتنقل سفارتها إلى القدس، والعالم لا حراك له.
إن القرآن الكريم ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وبين أن المرجعية الوحيدة للأمة هي الدين والتمسك به، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وفي كلمة " المسجد الأقصى" إشارة إلى أن المسلمين هم الذين يدخلون المسجد الأقصى، وهم الذين يفتحونه، ويحررونه.
ثم بين الله تعالى أن لبني إسرائيل فسادين، فقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}، والراجح من قول أهل العلم أنهما كانا في عصر الإسلام، من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة.
وقد وصف الله تعالى الذين يدخلون المسجد الأقصى بثلاث صفات، وهي:
الأولى: العبودية المحضة لله تعالى.
الثانية: أولي بأس وقوة.
الثالثة: كلمة" شديد" وزن فعيل، الدال على الثبات. أي القوة ثابتة وملازمة لهم.
وفي قوله تعالى: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} إشارة إلى دور الإعلام في بيان الحقائق وكشف فضائح اليهود، وإيصال صوت الأمة الإسلامية إلى العالم، وبيان أن الأمة الإسلامية أمة مظلمة، يبلغ تعدادها الميار وسبعمائة مليون نسمة، وليس لها حق النقض الفيتو ممن يمثلها في الأمم المتحدة، وليس لها الحق في أن تأخذ بالتقنيات الحديثة المتاحة للجميع إلا للمسلمين، ورغم ذلك يلهث الجميع وراء خيراتنا وثرواتنا.
فعلى الأمة أن تعيد النظر في سيرتها هذه، لعل الله تعالى يعيد لها سيرتها الأولى.
الخطبة الثانية:
علينا أن نراجع أنفسنا في هذه الليالي المباركة، وننظر في أحوالنا، هل تغيرت نحو الأحسن؟ هل تحققت لنا الغاية المرجوة من الصيام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؟
فمن وجد تقصيراً فليبادر وليتدارك ما بقي من هذا الشهر الكريم.
كما علينا ألا ننسى واجباتنا تجاه الفقراء والمساكين، من خلال إخراج صدقات الفطر في الوقت المناسب، حتى يتمكن آخذها من الاستفادة منها على أكمل وجه.
وعلينا ألا ننسى واجباتنا تجاه الأمة وقضاياها الأساسية، وعلينا أن نفكر في أنفسنا وقضايانا ونعيش معها، ومن ظن اننا ننسى قضايانا فهو واهم.
أمتنا منصورة بإذن الله تعالى، ولكن بشرط أن تحقق الوحدة التي أمر بها الله تعالى، وأن ترجع إلى القرآن الكريم فتجعله منهج حياة.
اللهم أصلح أحوالنا.