أيها الإخوة المؤمنون

أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس، ولذلك أولى بها العناية القصوى ووجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى تربيتها التربية التي تؤهلها لتحظى بهذه المرتبة، فرباها صلى الله عليه وسلم على الخصال الحميدة والشمائل المجيدة، وبوأ الأمة لمنزلة السامية التي من أخرجت من أجلها من خلال التشريعات التي حرصت على تربية القلوب وتزكيتها وتصفيتها حتى يغدو القلب سليماً.

وإن الله تعالى حصر النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة على سلامة القلوب {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ولم يذكر الله تعالى الأعمال ولا العقائد لأن مرجع قبولها وسلامتها إلا سلامة القلب.

ومن هنا بين الله تعالى خطورة الأمراض التي تصيب القلوب، فكما أن الأمراض المادية المعروفة في عالم الطب التي تصيب القلب فتهلكه وتفسده، كذلك الأمراض المعنوية فإنها إذا استقرت في القلب أهلكته وأبعدته عن الله تعالى، وتربص بالشيطان وقعد له كل مرصد.

واليوم نتحدث عن أشد هذه الأمراض فتكاً، وأخطرها على القلب وأشدها نكالاً به، وأعظمها سبباً في إبعاد الإنسان عن رحمة الله تعالى وعن سلامة القلب، هذا المرض الخطير هو " الحسد".

إن العلماء جعلوا الحسد على نوعين:

النوع الأول: حسد بمعنى تمني زوال النعم عن الآخرين، وهذا حرام وشر مستطير على الفرد والمجتمع وهو محور حديثنا اليوم.

والنوع الثاني: حسد الغبطة، وهو أن تتنمى أن يكون لك من النعم مثل ما للآخرين، دون تمني زوالها عنهم، وهذا جائز شرعاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {   لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها }.

والحسد أصل كل بلاء، ومصدر كل شر، وموقظ كل فتنة، ولو بحثنا عن أي مصيبة في الأرض على أي صعيد كان لوجدنا أن الحسد هو المسعر لها، وأن الحسد هو الذي أوقد نارها.

ولقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه من قصص الحاسدين ما فيه عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولمن كان يريد الآخرة وسلامة القلب ليفوز بما عند الله تعالى من نعيم مقيم.

قص الله تعالى علينا كيف امتنع إبليس عن السجود لأبينا آدم عليه السلام، حسداً وتكبراً، فاستحق اللعنة والطرد وذهبت كل عباداته التي عبدَ الله تعالى بها من قبل هباءً منثوراً، وقد ظن أنه خير من أبينا آدم، واستغرب كيف يجعل الله تعالى آدم خليفة في الأرض، وهو مخلوق من تراب، فأخذته العزة بالإثم، واستكبر عن أمر الله تعالى، وحسد آدم على تلك النعم، وقال في رده على سؤال الله تعالى له عن سبب الامتناع عن امتثال الأمر، ورفضه السجدة، {  أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فكانت النتيجة { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا }.

فالحسد مرض شيطاني كلما تمكن في القلب اقترب الإنسان من الشيطان ودخل تحت سيطرته، وكلما ابتعد عن الحسد الإنسان وأخلص قلبه لله رب العالمين كان في حصن من الشيطان ومكائده.

وما سفكت أول قطرة من دم ابن آدم في الأرض إلا بسبب هذا المرض الخطير " الحسد" وذلك ما بينه الله تعالى لنا في سورة المائدة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو على أمته قصة ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل -لأنه كان صاحب زرع – واختارها من أردأ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها ، وكان قربان هابيل كبشاً – لأنه كان صاحب غنم – أخذه من أجود غنمه . فتُقبل قربان هابيل، إذ جاءت نار من السماء  فأكلته، وكان ذلك علامة قبول الصدقة، فلما تُقبل قربان هابيل، قال له قابيل حسداً : أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني ! لأقتلنك، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ثم ابتُلي بجسد أخيه لم يدر ماذا يفعل به، فأرسل الله غراباً يعلمه كيف يواري سوءة أخيه، واستشعر بالذنب والندم، وأصبح من النادمين، ومنذ ذلك اليوم إلى يوم القيامة لا تزهق روح ظلماً إلا كان على قابيل كفل من دمها.

 كما يروي لنا القرآن الكريم ما كان من خبر يوسف عليه السلام وإخوته، حين دب فيهم الحسد، وزين لهم الشيطان المكر والتخطيط لقتل يوسف، مبررين سوء فعلتهم هذه بأنهم سيكونون من بعده قوماً صالحين.

انظروا كيف يزين الشيطان للحاسد أعماله، حتى إذا تمكن منه حبب إليه المعاصي، وزينها في قلبه، وجعلها في نظره حلوة نضرة، ويلبس عليه أمره، فيزعم أن الخير كله يكمن فيما يقدم عليه.

سكن الحسد قلب إخوة يوسف عليه السلام، فمكروا به وكادوا له، وخططوا لقتله، مبررين ذلك بأنه يلبسهم ثياب الصالحين، ويقربهم من الله أولاً ومن أبيهم يعقوب عليه السلام ثانياً { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }.

وهذا ذاته ما نشاهده في حجج الدول التي تحاصر قطر، تزعم أن في ذلك خير لقطر وأهلها، وأي خير يكمن في قطع أواصر المحبة ووشائج النسب، وعلائق الإخوة وروابط الأسرة والعشيرة والقبيلة؟.

أي خير في هتك حقوق الإنسان وإهدار كرامته؟ وأين الخيرية في سلب الناس أموالهم وتجاراتهم؟ وأين الخيرية في طرد الأنعام التي لا تعقل؟

ما قامت به دول الحصار لا صلة بينه وبين الخيرية أبداً، ولا تنتج إلا السوء والأذى والضرر، ولم تحاصر قطر إلا حسداً من عند أنفسها، لما ينعم به قطر وأهلها من خيرات الله ونعم، وحسداً لما وصلت إليه قطر من المكانة المرموقة بين دول العالم، وحسداً لما ينعم به هذا البلد العزيز" قطر" من نعمة الأمن والاستقرار، فزين لهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم أمراً، ولكن الله تعالى ردهم على أعقابهم خائبين، وحفظ على قطر وأهلها أمنها واستقرارها في ظل قيادتها الحكيمة الرشيدة.

يقول علماء السلف: جعل الله تعالى العدالة في الحسد، وذلك لأن ضرر الحاسد تصيب الحاسد قبل المحسود في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الحاسد بغيض إلى الناس ولن يحصد من حسده إلا الحسرة والندم، وأما في الآخرة فإنه يأتي صِفر اليدين من الحسنات.

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أضرار الحسد على الدين وعلى الفرد وعلى المجتمع، منها:

أن الحسد تذهب بدين الحاسد، قال صلى الله عليه وسلم: { دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين }.  أكرم الله تعالى هذه الأمة بمجموعة من الفضائل، وخصها بعدد من المنح والمكرمات، وأعطى لها فرصاً من خلال ليالٍ و أيام مباركات، فقد روى الطبراني في المعجم الأوسط والكبير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها؛ لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة فلا يشقى بعدها أبداً".

ولا مكان للإيمان الكامل في قلب الحاسد، قال صلى الله عليه وسلم: {لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ }.

تذهب الخيرية والبركة عن الحاسد، لأن الحاسد يعارض قدر الله تعالى في إنعامه وتفضله على المحسود، { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، والذي يستحق التقدير والتبجيل هو الذي يكون في خدمة الناس، يرعى مصالحهم ويتفقد شؤونهم، وليس الذي يسعى فيهم بالبغضاء ويوقد نار الشحناء بينهم. هذه النفحات هي المكرمات التي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية، وهي المنح الربانية التي أكرم الله تعالى بها خير أمة أخرجت للناس، حتى ينتهزها المسلم فيما يأخذ بيده إلى الفوز بكرامة الدنيا والآخرة، فيغتنم هذه الفرص قبل أن يدركه الموت وينتقل إلى الآخرة يتمنى العودة إلى الدنيا ليستثمر هذه العطايا الربانية.

وإن من أعظم هذه المنح وهذه الفرص هذه الأيام العشر التي أقسم الله تعالى بها، فقال سبحانه: { وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ } كما أنها هي الأيام المعلومات التي ذكرها الله تعالى بقوله: {  وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ }، وقد فسر معظم المفسرين، وعلى رأسهم ترجمان القرآن، وحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما { الأيام المعلومات } بأنها هي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة.

وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أيام الدنيا، في الحديث الصحيح عند ابن حبان والبزار: { أفضل أيام الدنيا العشر ـــ يعني عشر ذي الحجة ـــ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ فقال:" ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه في التراب }.

وفي هذه العشر من شهر ذي الحجة أمور عظيمة الشأن والقدر، على المسلم أن يعلمها حتى يستثمرها بالطريقة المثلى التي تأخذ بيده إلى شاطئ الاستقرار والسلام.

فيها يوم عرفة، اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، حيث نزل فيه قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }، وقد كر كثير من العلماء أن الله تعالى أخذ من ذرية بني آدم عهد التوحيد في يوم عرفة.

وفيها يوم التروية، اليوم الذي يستعد فيه الحجاج للذهاب إلى عرفة؛ ليتموا شعائر الحج، ويؤدوا ركن الحج الأعظم، وهو الوقوف برفة، ثم يفيضون ليتطوفوا بالبيت العتيق طواف الإفاضة.

وفيها يوم النحر ، حيث تتم فيه المناسك، ويقدم المسلمون فيه الأضاحي، يحييون بذلك سنة أبي الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

بم يستثمر المسلم هذه العشر؟

لا يخفى على المسلم الحصيف ما لهذه الأيام العشر من مزايا، وما فيها من المكرمات والعطايا، عليه أن يسعى جاهداً لاستغلالها الاستغلال الأوفر، لعل نفحة فيها تحرم وجهه عن النار، وتسعده في الدنيا والآخرة، وإن مما ينبغي أن يفعله المسلم في هذه الأيام حتى يدوم عليه السرور في الدنيا، وحتى يكون قبره روضة من رياض الجنة، وحتى ينقلب يوم القيامة إلى أهله مسروراً، ويتقلب في أفياء النعيم في جنات الخلد، هو:

  1. الذكر والتسبيح والتهليل والتكبير، عليه أن يملأ جميع أوقاته بذلك ذهاباً إلى مسجده، وعمله، وسوقه وإياباً منها، حتى يغدو لسانه رطباً بذكر الله تعالى، يذكر الله بلسانه وقلبه وجوارحه، حتى إذا فتر لسانه عن الذكر بقي قلبه مطمئناً به، وظلت جوارحه مستقرة به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: { ما أهل مهلٌّ قط إلا بُشِّر، وما كبر مكبر قط إلا بُشِّر، قيل يا رسول الله بالجنة؟ قال: نعم }.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد في هذه العشر، فقال: { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ }.

وقد قال البخاري رحمه الله: كان أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.

  1. الصيام، وبخاصة صوم يوم عرفة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه، فقال: { يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ }.

ولنعلم أيها الإخوة أن هذه المغفرة تكون للحقوق التي بين العبد وخالقه، أما ما يتعلق بحق العباد من ظلم وسرقة وخيانة وغش، فهي غير داخلة في دائرة العفو هذه إلا أن يستبرئ المذنب من صاحبها فيعفو عنه، أو أن يؤدي الحق إلى صاحبه.

وكذلك الحقوق المعنوية من الغيبة والنميمة وغيرهما فلا بد أن يستبرئ المسلم من صاحبها حتى ينال المغفرة والرضوان.

  1. الصلاة، والحرص على أدائها جماعة، وكذلك قيام الليل وصلاة التهجد فهي مطلوبة في كل وقت، غير أنها في هذه العشر آكد، وأشد استحباباً لما فيها من مضاعفة الأجر والمثوبة.
  2. الصدقات، وكفالة الأيتام، والأسر المنكوبة بما يزيل عنها هم الدنيا، وبما يواسيها في مصائبها، ويخفف عنها بلواها، حتى يغدو المجتمع متماسكاً كالبنيان المرصوص.
  3. التوبة النصوح، والعزيمة على الاستفادة من هذه الأيام واستثمارها بالطريقة المثلى، وبالإكثار من التضرع إلى الله تعالى، والتذلل بين يديه سبحانه، حتى يلقى الله تعالى بقلب سليم مطمئن بالإيمان.

هكذا يستثمر المسلم هذه العشر بما يرضي خالقه سبحانه، وبما يسعده في الدنيا والآخرة، وتكون حياته كلها لله تعالى.

كل ما سبق يدخل في العمل الصالح الذي حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ }، وقد فسر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } لمن يشاء أن يستثمر هذه الأيام المباركة.

إن العمل الصالح لا انتهاء له ولا أمد، فالكلمة الطيبة، والابتسامة، وصلة الأرحام، والعفو عند المقدرة ، وردُّ السلام بالتي هي أحسن، إذ بعض الناس يرد السلام رداً يشعرك بالندامة أنْ سلمتَ عليه، وغيرها مما يقوي أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، ويزيل الطبقات الاجتماعية ويقضي عليها، ويهدم الجفوة بين أفراد المجتمعات يعتبر عملاً صالحاً يثاب فاعله بالأجر المضاعف.

الخطبة الثانية

كان على جميع الأمة أن تنتهز هذه الأيام العشر المباركة في التقرب إلى الله تعالى؛ لتحقيق الخيرية التي من أجلها أخرج الله تعالى الأمة الإسلامية، وكان عليها أن تنتهز هذه الأيام بالمصالحة بين الأمة الإسلامية دولاً وشعوباً وأمماً.

لكن مع الأسف الشديد يزداد أمر المسلمين اليوم على جميع المستويات، وبخاصة على مستوى معظم السياسيين سوءاً، ولو كانت لنا دعوة مستجابة ـــ كما يقول الفضيل بن عياض رحمه الله ـــ لدعونا أن يصلح الله تعالى حكام المسلمين.

كم تجمل هذه الأيام العشر أن تكلل بالمصالحة بين قادة المسلمين وعلمائهم، وكم يُسعد الأمة الإسلامية أن ينتج هذا المؤتمر الأكبر ( الحج ) مصالحة قوية متينة بين أفراد الأمة كلها.

نتألم كثيراً أن نجد الفرقة تدب بين القبيلة الواحدة والأسرة الواحدة وأبناء الحي الواحد، وتسلك بهم نحو الحضيض، وتقضي على ما كان بينهم من وشائج النسب وعلائق الأخوة، دون سبب مقنع، ولا سابق إنذار.

فجأة تغيرت الأمور، وتقلبت الأحوال؛ من وِد واحترام ومحبة ووحدة وألفة ووئام، وتعاون وتكاتف، إلى كره وبغض وتفرق وتشتت وقطع وهجر وتدابر وتخاذل.

كيف يتم هذا في ظل الإسلام العظيم، الذي جعل المسلمين إخوة في ظلال الإيمان، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  }، وهل من شيم العروبة والقبلية هذا الحصار والمقاطعة؟

حتى الجمعيات الخيرية التي ترعى الأيتام والأرامل وتكفل شؤون الدعاة وترعى مصالحهم، وتتعامل الأمم المحتدة معها لم تسلم من تلك الأيدي الآثمة، التي تولت قطع كفالة الأيتام، وقطع المعونة عن الأرامل، وبترتْ يد المساعدة عن الدعاة، ومنعت دين الله تعالى من الوصول إلى شعوب أفئدتها عطشى للدين، وتلهف أرواحها إلى الإيمان بالله تعالى.

وما رأينا في تاريخنا الإسلامي أنْ مُنِع المسلمون من أداء الحج والعمرة.

من يتحمل إثم كل ذلك؟

إن كل من يتسبب في شيء سواء كان خيراً أم شراً سيتحمل المسؤولية أمام الله تعالى، وستبقى آثار هذا الشيء تكتب إما له أو عليه، قال تعالى: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ }.

لم يمارس التضييق على أي نشاط لأي جمعية منذ أحداث 11 / 9 / 2001 سوى جمعيات أهل السنة والجماعة، وللأسف بأيدي بني جلدتنا، أما الجمعيات التي تنشر الضلال والكفر فهي تمارس كافة أنشطتها بكل حرية، ومتروك لها الحبل على الغارب دون مضايقة من أي جهة رسمية أو غير رسمية.

أُذكِّر من تسبب في منع الجمعيات الخيرية ممن مزاولة أنشطتها الخيرية ـــ التي تبني المجتمعات وتؤلف بين الأمم ـــ أُذكِّره بالله تعالى، وأُذكِّره بهؤلاء الفقراء والأيتام والأرامل والمساكين، وبأولئك الراغبين في الإسلام ولا يعرفون الطريق إليه، ويجهلون حقيقته، بأنهم جميعاً سيكونون خصوماً لهم أمام الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اللهم أصلح أحوالنا

 

الحسد داء شيطاني طرد الشيطان من رحمة الله تعالى، وجعل أحد ابني آدم قاتلاً، وفرق شمل أسرة سيدنا يعقوب عليه السلام، وأفسد المودة بين يوسف وإخوته ومزق الأخوة.

ولما له من آثار تردي المجتمع وتفككه حاربه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من خلال تربية الأمة على الإيمان بالله تعالى وقضاءه وقدره، وعلى مكارم الأخلاق التي تقوي عزيمة المجتمع وتشد أزره.

وإذا أرادت الأمة الشفاء من هذا الداء الفتاك الخطير، عليها أن تنمي في قلوب أفرادها الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه، وأن تضع بين أيديهم كتاب الله تعالى يتلونه صبحاً ومساءً حتى تكون ألسنتهم رطبة بذكر الله تعالى، يتلونه ويدبرونه، و بخاصة المعوذتين، وأن تحض على مجالسة الصالحين وتأخذ على أيدي المفسدين.

كما على الفرد أن يروض نفسه على سلامة القلب وتطهير النفس وصفائها وتربيتها على حب الخير للناس، وعلى بذل المعروف والتضحية.

الخطبة الثانية:

أحوال أمتنا الإسلامية في غاية من السوء على كافة المستويات، تفرقت الأمة وأصاب جسدها الهزال، ودب فيها معظم الأمراض التي أهلكت الأمم من قبلنا، وبخاصة في الأمة العربية.

علينا أن نستعين بالله تعالى على علاجها، وأن نسعى لاستئصال شأفتها، وهذا أول واجب على العلماء، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يقول الحق ولا يخافون في لومة لائم {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، ومع الأسف الشديد بعض الدول العربية والإسلامية لا ترعى للعالم حرمة، ولا تحفظ له مكانة، بل يتطاولون عليه لمجرد دعاء ابتهل به إلى ربه، كما أنه يسجن إذا اعتزل الفتنة، ولم يصب الزيت على النار، من مبدأ" مَنْ لم يكن معي فهو عدوي"، فاعتُقل بعض العلماء ولا جريرة لهم إلا ترك الفتنة وعدم الخوض فيها.

والله إن سجن العلماء شر مستطير، وإن غضب الله لآت، وبخاصة إذا اعتُقل العالم لأنه قال الحق، وإننا لمشفقون على تلك الدول من غضب الله تعالى وسخطه.

علينا أن لا ننسى إخواننا في ميانمار، حيث شغلنا الحسد فيما بيننا عن القيام بواجبنا تجاههم، وأفنى الحسد روح التعاون بيننا وبينهم، ومنعت الدول المانحة والقادرة على العطاء عن إخوانهم في آسيا وأفريقيا بسبب الحسد.

كما انشغلنا عن قضايا الأمة كلها من أجل الحسد الذي يعم بلاؤه، وينال الكلَّ أذاه وضرره.

اللهم أصلح أحوالنا.