تمهيد:
إن نشاة علم المقاصد تعود إلى العلة وكونها مناسبة ، ومن هنا أولى إمام الحرمين ، ومن جاء بعده العناية القصوى بتأصيل مقاصد الشريعة ، وتقسيمها إلى مقاصد ضرورية ، ومقاصد حاجية ، ومقاصد تحسينية ، أو تكميلية .
ولذلك أرى من الضروري أن أتطرق إلى بيان العلة والحكمة بالقدر الذي يتعلق بالموضوع ، وإلى تعليل الأحكام ، وتحرير محل النزاع فيه .
أولاً ـ العلاقة بين الحكمة والعلة :
وإذا كانت العلة لدى علماء الأصول هي الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم ، فإنها تتضمن من خلال كونها معرفة للحكم ومناسبة له تحقيق المصلحة ودرء المفسدة ، وهنا ظهرت العلاقة بينها وبين الحِكَم والمصالح ، وأثر التعليل بالحِكَم والمصالح ـ كما سبق ـ .
والذي يظهر لنا رجحانه هو ان أحكام هذه الشريعة مرتبط كلها بالحكم والمصالح ولكنها إذا ضبطت فتصبح علة مقبولة معرفة ، أو مؤثرة ( في غير الشعائر التعبدية ) وحينئذ يعتمد عليها في القياس ، وإلاّ فتكون لبيان محاسن الشريعة وجمالها وعظمتها ، فلا يوجد حكم بدون حكمة وان كانت عامة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها ، فالشعائر التعبدية مثل الصلاة التي هي صلة بين الناس ، وبين الله تعالى ومع ذلك فالحكمة منها أنها تمنع الفحشاء والمنكر فقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ….)[1] ، والزكاة تطهير للمعطي من الجشع والبخل ، وتطهير للمعطى إليه من الحقد والحسد ، وتكافل اجتماعي لتحقيق الاخوة الايمانية ، فقال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[2] ، والصوم عبادة لتزكية النفس ، وللتحمل والصبر ، والترويض على تحمل الجوع والعطش ، والامتناع عن المباحات لأجل التعود على الامتناع عن المحرمات فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[3] والحج قال فيه تعالى : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ …)[4].
ولكن الحِكَم والمصالح في الشعائر التعبدية ليست للقياس بالزيادة والنقصان ، وإنما لبيان ما فيها من خير ومنافع للأمة لأن الدين كله خير بنص القرآن الكريم فقال تعالى : ( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ )[5] .
وأما الحكم والمصالح في غير الشعائر التعبدية من العادات والمعاملات فهي للقياس والاستفادة منها في الحوادث الجديدة لتقاس على المنصوص عليها إذا تحققت العلة الجامعة ، أو المصلحة الجامعة .
فمنهج القرآن الكريم واضح في أن التعليل بالحكم والمصالح هو الأصل في التعليل ، يقول الشيخ محمد مصطفى شلبي : ( إن كتاب الله وسنة رسول الله فيهما الكثير من الأحكام المعللة بالحكم والمصالح …. ، بل ان ما روى عن الفقهاء المجتهدين من أول الخلفاء الراشدين إلى عصر الأئمة من التعليلات يصور لنا حقيقية التعليل عندهم ، وانه يكاد يقتصر على الحكمة حتى لو قال قائل : ان التعليل بالحكمة هو الأصل في التعليل لم يكن في قوله مغالاة ، ولا بعد عن الحقيقية )[6] .
إذا نظرنا إلى الآيات الكريمة التي تتحدث عن الأحكام الشرعية نجد أن كثيراً منها تعلل بالحكم والمصالح ، سواء كانت في مجال الشعائر التعبدية ـ كما سبق ـ أم في نطاق غيرها ، فقد علل الله تعالى تقسيم الفيئ على مستحقيه الكثيرين بقوله تعالى : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[7] ومن المعلوم أن هذا التعليل هو بالحكمة والمصلحة ، وليس بالعلة المعروفة لدى علماء الأًصول ، وكذلك قوله تعالى في الخمر والميسر : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )[8] .
وفي السنة نجد نصوصاً كثيرة في التعليل بالحكم والمصالح ، منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم عندما استشاره سعد وهو في مرضه وهو في مرضه ان يوصي بشطر ماله ، فلم يوافق ، ثم عرض عليه ” الثلث ” فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)[9] فهذا تعليل بالحكمة وليس بالعلة .
وفي ضوء هذا المنهج كانت تعليلات الصحابة ، وبالأخص الخلفاء الراشدون ، ونذكر مثالاً واحداً وهو أن جمهور الصحابة الفاتحين للعراق قد عرضوا على عمر ” رضي الله عنهم جميعاً ” قسمة سواد العراق عليهم مستدلين بظاهر آيات الغنيمة ، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة خيبر على فاتحيها ، فامتنع عمر عن ذلك مستدلاً لذلك بقوله ( لولا آخر المسلمين ما فَتحَْتُ قرية إلاّ قسمتها ، كما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر )[10] استشهاداً بالآيات الأربع من سورة الحشر من قوله تعالى : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )[11] وعمر رضي الله عنه علل اجراءه ذلك بالحكم والمصالح وهي مراعاة حقوق الأجيال التالية التي استنبطها من الآيات السابقة ، حيث قال : ( والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حق من هذا المال أعطى منه أو منع منه ، حتى راع بعدن )[12] .
وعلى هذا المنهج سار الفقهاء الكبار من التابعين ومن تبعهم من أصحاب المذاهب الفقهية في أمثلة كثيرة ليس هذا مجال ذكرها[13] قال الآمدي : ( لأن المقصود من شرع الاحكام الحِكَم ، فشرع الاحكام مع انتقاء الحكمة يقيناً لا يكون مقيداً )[14] .
ومن هنا كان سبب امتناع جمهور الأصوليين عن التعليل بالحكمة يعود إلى خوفهم من عدم ضبط الأقيسة ، حتى لا تترك للمتأخرين ، يقول الإمام القرافي : ( والحكمة هي التي لأجلها صار الوصف علة كذهاب العقل الموجب لجعل الاسكار علة ، والمظنة هي الأمر المشتمل على الحكمة الباعثة على الحكم إما قطعاً كالمشقة في السفر ، أو احتمالاً كوطء الزوجة بعد العقد في لحوق النسب ، فما خلا عن الحكمة فليس مظنة )[15] .
ثانياً ـ خلاف فلسفي فيه لا أثر له على النص والواقع :
وقد وقع في هذا الباب خلاف بين العلماء حول تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه ، لو أثير بصورة عادية وواقعية لما كان هناك مجال للاختلاف بين علماء المسلمين ولكنه صبغ في صورة فلسفية ، وفي جو مشحون أدى إلى خلاف كبير بين علماء الكلام ، بين المعتزلة من جانب والأشعرية من جانب آخر ، حيث قال المعتزلة : إن أفعال الله تعالى كلها معللة ، ثم رتبوا عليها القول بأن الله تعالى يجب عليه الصلاح والأصلح ، فقرر رئيسهم أبو الهذيل (135-226هـ) : إن الله تعالى محسن فلا يفعل إلاّ ما فيه الصلاح ، وأن نسبة خلق الشرور إليه تعالى ليست حقيقة ، بل مجاز ، فقال : ( إن الله يخلق الشر الذي هو مرض ، والسيئات التي هي عقوبات ، وهو شر في المجاز ، وسيئات في المجاز ) فهذه الفكرة فلسفية مسندة إلى أفلاطون ، فقد نقل عنه الشهرستاني قوله : ( فمن المؤكد أن الله صالح …. وإذا كان صالحاً فإنه لا يصنع الشر ، ولا يكون سبباً فيه …. )[16] .
إذن فهذه الفكرة أدت إلى عزل الخالق عن خلق جزء كبير من الأفعال وهو يصطدم مع النصوص القرآنية الدالة على أن الله تعالى هو خالق كل شيء ، وكل ما يقع فيه ، فقال تعالى : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[17] فقد بدأت الآية بتقرير الوحدانية المطلقة لله تعالى التي تقتضي أن يكون الخالق لكل شيء واحداً ، وإلاّ ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[18] وقال تعالى : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ )[19] وقال تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[20] .
وإذا كانت بعض الآيات أسندت الشر والسيئة إلى الإنسان مثل قوله تعالى( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )[21] لكن الآية لم تسند الخلق إليه ، وإنما أضاف السيئة إلى الإنسان من حيث إن لها دوراً فيها من حيث إنه أرادها ، وسعى لها وأخذ بأسبابها الظاهرة ، ولكن هذه القدرة تعود أيضاً إلى الله تعالى فهو الذي منحها إياه ، وخلقها له ، فهذه الآية تقرر مبدأ المسؤولية القائمة عليها على الإدارة ، والكسب ، ولذلك أضافها إلى نفس الإنسان فقال تعالى في آية أخرى : ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)[22] أي بسبب ذنوبه ، ولذلك قرر الله تعالى في نفس المعنى والإطار أن خلق السيئة من الله تعالى بعدما يريدها الإنسان ، ويقدم عليها على ضوء سننه في الكون ، سننه في المسؤولية والمحاسبة والثواب والعقاب ، فقال تعالى : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)[23] حيث قرر الله تعالى في مقام العقيدة والخلق بأن كل شيء إلى الله تعالى فله الأمر والخلق .
نعم إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ولا الشرور ، ولكن إذا هم أرادوا ذلك فإن كل شيء لا يخرج عن إرادته وخلقه وتكوينه وقدرته .
وكرد فعل للأشاعرة على نتائج مقولة المعتزلة هذه بالغوا فنفوا تعليل الأفعال ، وأضافوا إليها الأحكام في باب العقيدة وعلم الكلام ، وأفحم الأشعري شيخه الجبائي (ت295هـ) حينما قال : ( لماذا خلق الله تعالى الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة ) حيث بهت الجبائي وترك الأشعري مذهبه ، وبنى مذهبه الجديد الذي سمي بالأشعرية[24] ، لذلك فمعظم الأشاعرة حينما تحدثوا عن تعليل الأحكام في علم أصول الفقه ذهبوا إلى أنها معللة ، بل إن أبا الحسن الأشعري نفسه نصّ على أنه ( لا قياس إلاّ على أصل معلول فيه علة يجب أن تطرد في الفرع )[25] .
ونحن هنا لا يهمنا هذا الخلاف الفلسفي ، ونستبعده ، وبالتالي نستطيع القول بأن الخلاف في الفقه وأصوله محصور بين جماهير الفقهاء والأصوليين القائلين بتعليل الأحكام[26] ، وبين الظاهرية[27] وقلة من القائلين بعدمه ، ولكن كلام الظاهرية أيضاً لا بد أن يحصر في دائرة العلة التي يبنى عليها القياس ، حيث إنهم لما نفوا القياس نفوا كذلك العلة ، ولكنهم لا يقولون بتجريد الخلق والأفعال والأحكام عن المقاصد والغايات .
وقد نقل ابن الحاجب في الكلام عن السبر والتقسيم : إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة[28] ، وقال ابن رحال : ( قال أصحابنا : الدليل على أن الأحكام كلها مشروعة لصالح العباد إجماع الأمة على ذلك : إما على جهة اللطف والفضل على أصلنا ـ أي أصل السنة ـ أو على جهة الوجوب على أصل المعتزلة )[29] .
يقول الأصفهاني في شرح المحصول : ( ندعي شرعية الأحكام لمصالح العباد … ، وندعي إجماع الأمة ، ولو ادعى مدّع إجماع الأنبياء على ذلك ، بمعنى أن نعلم قطعاً أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بلغوا الأحكام على وجه يظهر بها غاية الظهور مطابقتها لمصالح العباد في المعاش والمعاد … )[30] .
وقد حاول الزركشي أن يجعل الإجماع على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وأحكامه ، فقال : ( والحق أن رعاية الحكمة لأفعال الله تعالى وأحكامه جائز واقع ولم ينكره أحد ، وإنما أنكرت الأشعرية العلة والفرض والتحسين العقلي ورعاية الأصلح ، والفرق بين هذه ورعاية الحكمة واضح ، ولخفاء الغرض وقع الخبط ، وإذا أردت معرفة الحكمة في أمر كوني ، أو ديني أو شرعي فانظر إلى ما يترتب عليه من الغايات في جزئيات الكونيات والدينيات متعرفاً بها من النقل الصحيح نحو قوله تعالى : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا )[31] في حكمة الإسراء ، وبملاحظة هذا القانون يتضح كثير من الإشكال ، ويطلع على لطف ذي الجلال )[32] .
بل إن أحد كبار الشافعية وهو أبو الحسين بن القطان اختار : ( أن الأحكام جميعها إنما تثبت بالعلة ، إلاّ أن منها ما يقف على معناه ، ومنها ما لا يقف ، وليس إذا خفيت علينا العلة أن يدل على عدمها ) وقريب منه اختاره الحافظ ابن الصلاح الشهرزوري[33] .
وقد ختم الرزكشي تحقيقه بإثبات أن الحكم لا يثبت إلاّ لمصلحة ، إما جوازاً ، أو جوباً…[34] .
والخلاصة : أننا إذا استبعدنا البعد الفلسفي فإن الفقهاء والأصوليين يكادون يُجمعون على أن أفعال الله تعالى مرتبطة بالمصالح ، وأن أحكامه معللة بعلل ، ولكنهم حرروا محل النزاع ، بان العلة التي يقصدونها : العلة بمعنى ( المعرّفة ) وليست ( الموجبة على الله تعالى ) و ( الباعثة على فعل المكلف ) وليست ( الباعثة لله تعالى ) إضافة إلى اتفاقهم على ربط الأفعال بالحكم .
وبهذا المعنى حُفظ مقام الذات العلية ( الله ) مما لا يليق بذاته ، من فرض شيء عليه ، فهو لا يسأل عما يفعل ، وحُفظ كذلك مقام صفاته وإرادته وعلمه وخلقه من العبث ، وعدم الحكمة ، وهذا كما ـ أقول دائماً ـ موزع على ميزانين : ميزان الألوهية القائم على التنزيه والعلو ، وميزان الخلق القائم على الحكم والمصالح التي جرت سننه تعالى أيضاً بذلك ، فهو الحكيم الذي اقتضت سننه إلاّ أن يفعل ما فيه الحكمة بمحض إرادته وفضله ولطفه ومنه وكرمه فقط.
إن التعليل في حقيقته ليس الركن الجوهري في القياس فحسب ، بل هو الأساس للتفكير التشريعي ، فهو في حقيقته استجلاء لمراد الشارع من الحكم ، وطريق كاشف عن طابع معقولية الأحكام من قبل أن الله تعالى ذكر السبب المعرف للحكم[35] ، فالتعليل في القياس يوسع دائرة اللفظ ( الأصل ) من مدلول خاص إلى مدلول عام وواسع ، فالخمر بعد اعتماد علتها ( الاسكار ) لم تعد بمعناها الخاص بشراب معين ، إنما تحولت إلى لفظ ( مسكر ) فكأن الله تعالى قال ( إنما المسكر … ) ، وكذلك الحال في النهي عن الربويات الست المذكورة في الأحاديث الصحيحة حيث يصبح بعد القياس فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبيعوا الطعام بطعام مثله إلاّ يداً بيد …. ولا تبيعوا الثمن طلقاً بثمن مثله إلاّ يداً بيد ، وإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد ) .
وكذلك الحال في مقاصد الشريعة العامة ، أو الخاصة بكل عقد ، فإنها تصبح علة لمشروعية الشيء المراد ، أو علة لمنعه ، فتصبح مخصصة للدليل ، فالمقاصد إذن ـ كما سبق ـ هو المنهج الذي يجب تحقيقه ، والمسلك الذي يجب اتباعه عند إصدار الأحكام والفتاوى ، وهي في حقيقتها بمثابة العلة المخصصة ، أو المانعة .
فعلى ضوء مقاصد الشريعة امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين المرتدين ، لأن قتلهم لن يحقق الغرض المنشود ، بل يحقق عكس مقاصد الشريعة في نشر رسالة الرحمة بين الناس ، حتى لا يقال : ( إن محمداً يقتل أصحابه ) .
وبناء على مقاصد الشريعة لم يطبق الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه آيات السرقة في قطع اليد في عام المجاعة ، لأن مقاصد الشريعة في الحدود هي الجزاء والردع ( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[36] فالذين سرقوا في عام المجاعة كانوا يسرقون لسد الرمق والحفاظ على النفس ، إذن انقلب المقصد ، وانعكست الآية ، فلم يقطع يد السارق[37] .
وكذلك الحال في فتوى عمر في المؤلفة قلوبهم ، حيث رأى عمر أن مقصد الشريعة في دفع الزكاة لهؤلاء هو لتأليف القلوب ، وتقوية الإسلام في نفوسهم ، وحثهم على الثبات عليه ، أو الدخول فيه ، حيث روى البخاري ومسلم وغيرهم بسندهم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى يوم حنين أناساً مثل الأقرع ، وأبي سفيان ، وصفوان ـ لم يسلم بعد ـ لتأليف قلوبهم )[38] فالمقصد الشرعي في ذلك هو : تأليف القلوب ، وتقوية الاسلام في نفوسهم ، ولما رأى عمر هؤلاء الذين أخذوا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عصر أبي بكر رضي الله قد استغلوا ذلك قطع عنهم العطاء[39] ، فليس من مراد الآية أن يظل من كان مؤلفاً في عصر يظل مؤلفاً في غيره من العصور[40] ، إذن فإن مقاصد الشريعة في التأليف إذا لم تتحقق بسنة أو أكثر فهذا يعني أنه لم تتحقق فعلاً ، وبالتالي فلا يستحق الدفع إليه ، ولا سيما فإن الله قد أعز الإسلام فلم يعد بحاجة إلى تأليف هؤلاء .
وكذلك فتوى عمر في قسمة الأرض المفتوحة ، حيث طبق مقاصد الشريعة في آيات الغنيمة التي تدل بظاهرها على أنها توزع بين الغانمين ما عدا خمسها فقال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[41] وقد قسّم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على الغانمين[42] ، ولما فتح الله على المسلمين في عهد عمر سواد العراق ، وغيره طالب بعض الصحابة بتقسيمه على الغانمين ، فامتنع عمر ومعه جمع من الصحابة ، وقال : ( لولا آخر الناس لقسمت الأرض ، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر )[43] فأبقى الأرض بأيدي أصحابها مع إبقاء ملكيتها للدولة الإسلامية ليظل خرجها مصدراً لها وللأجيال اللاحقة ، حيث استشهد بآيات الحشر (الآيات 7 – 10 ) .
فمقاصد الشيعة في ترك جزء من الثروة للأجيال اللاحقة ، والحفاظ على قوة المجاهدين وعدم انشغالهم بالزراعة والأرض ، وتضمين مصدر دائم لدخل الدولة ، والحفاظ على خبرة الفلاحين وعدم حرمانهم من مصدر رزقهم كل ذلك مقاصد معتبرة جعلت عمر أن يخصص آية الغنيمة وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو يؤولهما بما يتفق مع مقاصد الشريعة الغراء ، فقال : ( أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس بيّاناً ـ أي فقراء ليس لهم شيء ـ ما فتحت عليّ قرية إلاّ قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسموها )[44] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة العنكبوت / الآية 45
([2]) سورة التوبة / الآية 103
([3]) سورة البقرة / الآية 183
([4]) سورة الحج / الآية 28
([5]) سورة النحل / الآية 30
([6]) أصول الفقه الاسلامي ص 225
([7]) سورة الحشر / الآية 7
([8]) سورة المائدة / الآية 91
([9]) الحديث رواه البخاري في صحيحه ، مع فتح الباري (5/363 – 369 ) ومسلم في صحيحه (3/1250) والترمذي في سننه مه التحفة (6/301) والنسائي (6/201) وابن ماجه (2/904) والموطأ ص 476
([10]) يراجع في هذه القصة : صحيح البخاري (3/48) والمصنف لابن أبي شيبة (6/471) والأموال لابن زنجويه (1/108 ، 109 و2/480) والسنن الكبرى للبيهقي (6/351-352)
([11]) سورة الحشر / الآية 7-10 ويراجع : الدكتور أكرم العمري : عصر الخلافة الراشدة ط. مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة ص 177
([12]) هذا الأثر صحيح ، رواه عبدالرزاق في المصنف ( 4/151-152) و (11/101-102) وابن أبي شيبة في المصنف (6/471) وابن زنجويه في الأموال (1/108-109) و (2/480) والبيهقي في السنن الكبرى (6/351-352) ويراجع الدكتور أكرم العمري : المرجع السابق ص 178
([13]) يراجع : المصادر الاصولية السابقة ، والشيخ مصطفى شلبي : المرجع السابق ص 227-229
([14]) الاحكام للآمدي (3/393) ويراجع : شرح المحلى على جمع الجوامع ( 2/278)
([15]) مختصر التنقيح ص 124
([16]) يراجع : الملل والنحل للشهرستاني ط. مصطفى الحلبي بالقاهرة 1396هـ (1/49 – 53 ، 2/88-95) ويراجع : أ.د. محمد عبدالستار نصار : العقيدة الإسلامية ط. دار الهدى بالقاهرة 1403هـ ص 188 – 190
([17]) سورة الأنعام / الآية 102
([18]) سورة الأنبياء / الآية 22
([19]) سورة فاطر / الآية 3
([20]) سورة الزمر/ الآية 62
([21]) سورة النساء / الآية 79
([22]) سورة النساء / الآية 79
([23]) سورة النساء / الآية 78
([24]) يراجع لمذهب الجبائية : الملل والنحل للشهرستاني (2/78 – 85 ) ومقالات الإسلاميين (2/531)
([25]) مقالات الإسلاميين للأشعري ص 470
وقد استشكل ابن السبكي ورود هذا الكلام من الأشاعرة وشيخهم في الابهاج (3/41) ، ثم ذكر جواب والده رحمها الله في كتابه : ورد العلل في فهم العلل ، حيث حمل : نفي التعليل عندهم على أن المراد بالعلة : العلة المؤثرة بذاتها ، أو بمعنى : الباعثة على فعل المكلف ، فالقصاص ليس علة مؤثرة وباعثة لله تعالى ، لأن الله قادر على حفظ النفوس دون القصاص .
كما حمل قولهم باثبات العلة في القياس على أن العلة معرفة للحكم وليست مؤثرة بذاتها ، ولا باعثة عليه ، وداء في شرح المحلى مع حاشية العطار (2/274) فول السبكي : ( نحن معاشر الشافعية إنما نفسر العلة بالمعرف ، ولا نفسرها بالباعث أبداً … ، لأن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء ، ومن عبر الفقهاء عنها بالباعث أراد أنها باعثة للمكلف على الامتثال … ) وقد أكد هذا المعنى الرزكشي في البحر المحيط (5/124) ط. وزارة الأوقاف بالكويت 1413هـ
([26]) يراجع : البحر المحيط (5/122 – 131) وجموع الفتاوى (8/38 ، 89 ) ومنهاج السنة (1/455) ومدارج السالكين (1/117) وشرح الأصول الخمسة ص 509 والاحكام للآمدي (8/76)
([27]) الاحكام للآمدي (3/79 ) والفصل لابن حزم (3/210)
([28]) نقله عنه الرزكشي في البحر المحيط (5/122)
([29]) المصدر السابق نفسه ( 5/124)
([30]) المصدر السابق (5/123)
([31]) سورة الإسراء / الآية 1
([32]) البحر المحيط (5/124)
([33]) المصدر السابق (1/126)
([34]) المصدر السابق (5/128)
([35]) المقاصد لابن عاشور ، تحقيق الدكتور الحبيب ابن الخوجة ، طبع على نفقة أمير دولة قطر (2/47)
([36]) سورة المائدة / الآية 38
([37]) انظر : الأموال لأبي عبيد ص 374
([38]) انظر لنص الروايات : صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي (8/48 – 55 ) ومسلم ( 2/838 – 839)
([39]) الدر المنثور (3/252) وتفسير الطبري (10/113) والسنن الكبرى (7/19 – 21 )
([40]) الشيخ القرضاوي : فقه الزكاة (2/601)
([41]) سورة الأنفال / الآية 41
([42]) الأموال لأبي عبيد ط. قطر ص 67
([43]) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (7/490)
([44]) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (7/490)