التعريف بالسنة :
السنة لغة هي الطريقة ، والسيرة ، والطريقة المسلوكة المتبعة وسنن الله تعالى نواميسه وقوانينه التي لا تتغير ، ولا تتبدل ، وسنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هي طريقته التي سار عليها في العبادة والسلوك والعمل ، حيث يقول :” ومن أعرض عن سنتي فليس مني ” أي من أعرض عن منهجي وطريقتي في الاعتدال وطلب حسنتي الدنيا والآخرة ، وعدم ترك الزواج والأكل والشرب فليس مني .
فالسنة بهذا المعنى عامة تشمل المنهج العام الدقيق الذي سار عليه الرســول الكــريم ( صلى الله عليه وسلم ) في حياته الشريفة ، سواء كان هذا المنهج قد تلقاه من الله تعالى بلفظه ومعناه المعجزين ( أي القرآن ) أو بمعناه فقط ، أو أقر عليه ( أي الحديث النبوي ) وبهذا المعنى العام ورد على ألسنة الصحابة أيضاً ، حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” وقد سنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الطواف بينهما ــ أي الصفا والمروة ــ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ” مع أن مشروعية السعي بين الصفا والمروة وكونهما من الشعائر بنص القرآن .
وقد ورد لفظ السنة على ألسنة النبي( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على ذلك ، طريقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي أرستها أقواله وأفعاله وتقاريره ( أي غير القرآن ) فقال ( صلى الله عليه وسلم ) :” شهر كتب الله عليكم صيامه وسننت لكم قيامه ” ، فهذا واضح في أن المراد بالسنة هنا ما جعله رسول الله ندباً وتطوعاً ، وقال ابن عباس ” ما سنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً إلا وقد علمته غير ثلاث : لا أدري كان يقرأ في الظهر والعصر أم لا ، ولا أدري كيف كان يقرأ .. ” .
والتحقيق أن لفظ السنة أو ” سن ” كان يطلق في العصر الأول على 1 ــ الطريقة مطلقاً ، 2 ــ وعلى الطريقة التي كانت تشمل الإسلام كله ، 3 ــ وتطلق على ما قاله أو صدر منه ، أو أقر الناس عليه ( أي ما سوى القرآن ) . 4 ــ كما كانت تطلق على المندوب والمستحب الذي يقابل الفرض ، فإذا أطلقت على الطريقة تسند إما إلى الله تعالى ، أو إلى غيره ، وحينئذ تعرف الطريقة أنها حسنة ، أو سيئة ، فيتحدد معناها على ضوء المضاف إليه ، أو القرينة ، إذا أطلقت على سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي أقواله وأفعاله وتقاريره ) فإنها في الغالب يُذكر معها كتاب الله ، أو الكتاب ، وإذا أطلقت على المندوب والمستحب فيذكر معها الفريضة .
فمن الأول قوله تعالى :” ولن تجد لسنة الله تبديلا ً ” أي طريقته المتبعة وناموسه وقوانينه في تدبير الكون ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ” من سن في الإسلام سنة حسنة ً فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ، ولا ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ً فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء ” . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ” .
ومن الثاني ما رواه ابن عمر وابن عبــاس رضي الله عنهما قالا :” سنَّ رســــول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة السفر ركعتين ، وهما تمام غير قصر ” ولا شك أن تشريع القصر في السفر كان بنص القرآن الكريم ، لكن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين أن القصر إلى ركعتين فقط ، وروى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه سئل عن التمتع بالعمرة في أشهر الحج فقرأ قوله تعالى : (( …. فما استيسر من الهدي ..)) ثم قال :” فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة ، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله تعالى : (( ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام )) فهذا صريح وواضح في إطلاق السنة على ما ثبت بالقرآن أيضاً .
وعلى الإطلاق الثالث أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أنس قال :” جاء ناس إلى النبي( صلى الله عليه وسلم ) فقــالوا : أن ابعث معنا رجالا ً يعلمونا القرآن والسنة … ” ، ولا شك أن السنة هنا هي أقوال النبي ، وأفعاله وتقاريره ( أي غير القرآن ) ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً : كتاب الله وسنة نبيه ” ، والسنة بهذا المعنى تقسم إلى سنة مفروضة وإلى سنة مندوبة ، بل وإلى غيرهما ، قال مكحول :” السنة سنتان : سنة ٌ الأخذ ُ بها فريضة … وسنة الأخذ ُ بها فضيلة … ” .
وهذا الإطلاق الثالث هو محل بحثنا ودراستنا ، فالسنة على هذا المعنى عند الأصوليين : أقـــوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعــــاله وتقـــاريره ، وزاد المحــدثون : صفــاته ، وســـيرته ، وأضــاف بعضــهم إليهـــا : ومـــا هــمَّ بفعــــله وإن لم يفعله ، وعند بعض الفقهاء هي مرادفة للمستحب ، وبعضهم فرقوا بينها وبين المستحب والنفل والتطوع ، وقد ذكر بعض الباحثين الفرق بين هذه التعاريف وبين أن السبب في ذلك يكمن في اختلاف الأغراض حيث إن غرض علماء الحديث هو البحث عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث كونه أسوة وقدوة لنا ، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق وشمائل ، وأخبار وأقوال ، وأفعال سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا ، وأما علماء الأصول فإنما بحثوا عن رسول الله المشرع الذي يضع القواعد للمجتهدين ، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام ، وعلماء الفقه إنما بحثوا حكم الشرع على أفعال العباد وجوباً ، أو حرمة ، أو إباحة ، أو غير ذلك .
ويلاحظ عليه أن ما ذكره عن علماء الفقه يستلزم أن يكون إطلاقهم على السنة عاماً يشمل أحكام الشرع الخمسة ، مع أنهم أطلقوها على أحد أقسامها ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنني أرى أن النتيجة في تعريف الأصوليين ، والمحدثين واحدة ، وذلك لأن لفظ الأفعال تشمل كل ما حدث منه ، أو كف عنه مثل تركه غسل الشهداء والصلاة عليهم ونحو ذلك ، كما تشمل أفعال القلب والجوارح ، والإشارة ، وكل ممارساته العملية في حياته الخاصة والعامة ، في سلمه ، وفي حربه ، في دعوته وسلوكه ، وغزواته ، وما ذكره المحدثون من الصفات والسيرة لا تخرج عن نطاق القول ، والفعل ، والتقرير ، لأن المراد بالصفات هنا هي الصفات التي يمكن التأسي بها فهي إذن محصورة في الصفات الخُلقية ــ بضم الخاء ــ وليست الصفات الخلقية ــ بفتح الخاء ــ مثل كونه ( صلى الله عليه وسلم ) ضخم الرأس واليدين والقدمين ــ رواه البخاري ــ لأن هذه الصفات لا يمكن التأسي بها إذ هي مما جبل عليه ، لا يدخل في قدرة أحد إلا الله تعالى ، وهذه الأمور حتى وإن ذكرت فهي من باب ما وصفه الصحابة رسول الله به ، فلا يدخل في السنة وإن كان يدخل في الحديث بمعناه العام الشامل لكلام النبي( صلى الله عليه وسلم ) وكلام أصحابه .
وكذلك لا يدخل في السنة ما صدر منه( صلى الله عليه وسلم ) قبل النبوة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :” والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير ، ومنها كتب السيرة والمغازي ، ومنها كتب الحديث ، وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص ، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة ، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع … بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على عباده الإيمــان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة … ” .
وأما إطلاق الفقهاء ــ أي المتأخرين ــ السنة على المستحب وحصرها فيها فهو اصطلاح خاص بهم لا يلزم غيرهم ، ولا سيما أن المتقدمين كالشافعي وغيره كانوا يطلقون السنة على معناه العام الذي ذكره الأصوليون .
وعلى ضوء ما ذكرنا أن لا يوجد فرق جوهري بين تعريف الأصوليين ، وتعريف المحدثين ، ولذلك نرى الحافظ ابن حجر لم يفرق بينهما ، وقال :” وبالسنة ما جاء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله ” ثم أسند ذلك إلى ” اصطلاح الأصوليين والمحدثين ” .
وهذا التعريف هو الجدير بالاختيار ، وقد أسهب العلماء في شرح مفرداته فلا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها .
ولفظ السنة بهذا المعنى هو الشائع منذ عصر الصحابة والتابعين ولا سيما إذا ذكر معها القرآن ــ كما سبق ــ ثم شاع استعمالها فيه حتى وإن لم تقارن بالقرآن ، وهي والحديث ، والهدى بمعنى واحد عند أكثر الأصوليين والمحدثين .
التعريف بالتشريع :
التشريع لغة مصدر : شرَّع يشرع ، وأصله من الشرع وهو لغة النهج والطريقة المستقيمة ، وشرعة المـاء مورده الذي يقصـد للشرب ، ويقـال : شرع لهم أي سنَّ لهم ، وهي من الشروع في الشيء قال ابن جرير :” وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ، ومن ذلك قيل لشريعة الماء شريعة ، لأنه يشرع منها إلى الماء ، ومنه سميت شرائع الإسلام لشروع أهله فيه ” .
وقد ورد لفظ ” شرع ” ومشتقاته في القرآن خمس مرات ، وهي :
1 ــ قوله تعالى : (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك … )) قال الماوردي :” وفي شرع لكم أربعة أوجه : أحدها : سنَّ لكم . الثاني : بين لكم ، والثالث : اختار لكم ، والرابع : أوجب عليكم ” .
2 ــ قوله تعالى : (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) ، أي أن المشركين يتبعون ما سنَّ لهم شركاؤهم من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة و السائبة … ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار .
3 ــ قوله تعالى : (( إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً )) . قال ابن عطية : أي تأتي حيتانهم مقبلات إليهم مصطفات ، كما يقال : أشرعة الرماح إذا مدت مصطفة
4 ــ قوله تعالى : (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً )) ، قال الماوردي :” أما الشرعة فهي الشريعة ، وهي الطريقة الظاهرة ، فيكون معنى قوله : شرعه ومنهاجاً أي سبيلا ً وسنة وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد ، وقتادة .
5 ــ قوله تعالى : (( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها .. )) أي جعلناك على طريقة ومنهاج من أمرنا ، فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك .
وقد ذكر أكثر المفسرين أن المراد بالشريعة في الآيتين الأحكام العملية دون العقائد وأصول الأخلاق الثابتة التي لا اختلاف فيها بين الرسل ، لقوله تعالى : (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه … )) فإقامة الدين لله من خلال العقيدة الصحيحة ، وعدم التفرق فيه متفق عليهما بين جميع الأديان ، قال ابن عطية :” وهذا عندهم في الأحكام وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم … ، وقد ذكر الله في كتابه عــدداً من الأنبيـــاء شرائعهم مختـــلفة ، ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )) . فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، فأما في الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ))
وقد نقل المفسرون عن قتادة في تفسير هذه الآية : أي لكل واحد منهم سبيل وسنة والسنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء كي يعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، وفي رواية عن قتادة : الدين واحد والشريعة مختلفة ” .
فعلى ضوء ذلك أن الشريعة هي الأحكام العملية التي قد يختلف بعضها عند بعض الرسل عن بعضها عند الآخرين ، ولذلك نسخت شريعـة محمـد ( صلى الله عليه وسلم ) كل الشرائع السابقة ، وأن المطلوب منه هو اتباع شريعته فقط كما نصت على ذلك آية سورة الجاثية .
فالمراد بالشريعة الأحكام العملية التي يكلف بها الإنسان من حيث الوجوب والندب ، والحرمة والكراهية والإباحة ، ومن حيث الوضع والعلامة ، سواء كان تشريع هذه الأحكام بالقرآن أم بالسنة ، لأن الكل وحي من عند الله تعالى قال تعالى : (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً )) قال الشافعي :” فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وخطاب الشرع إما خطاب تكليف أو خطاب وضع ، فالأول هو ما يتعلق بفعل المكلف على سبيل الاقتضاء أو التخيير ، والثاني هو ما أخبرنا أن الله تعالى وضعه ويسمى بخطاب الإخبار أيضاً .
والمراد بالاقتضاء : الطلب وهو إما طلب فعل أو طلب ترك ، وكل منهما إما أن يكون طلباً جازماً أو غير جازم ، فخطاب الشرع الدال على طلب الفعل طلباً جازماً ــ مع المنع من تركه ــ يسمى بالإيجاب ، وإذا كان غير جازم فيسمى بالندب ، وخطاب الشرع الدال على طلب ترك الفعل طلباً جازماً ــ أي مع المنع من فعله ــ يسمى بالتحريم ، وإذا كان غير جازم فيسمى بالكراهية ، والتخيير هو الإباحة ، وهي ما لم يقتض الخطاب أحد الطلبين ، بل خير المكلف بين الفعل والترك .
هذه هي الأحكام الخمسة التكليفية ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الإيجاب بالواجب ، وقد رسم بأنه ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الندب بالمندوب ، ورسم بما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به التحريم بالمحرم ، ورسم بأنه ما يذم فاعله من حيث هو فعل ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الكراهية بالمكروه ، ورسم بأنه ما يكون تركه راجحاً على فعلـه لنهي ورد في فعله وإن كان فعله جائزاً ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الإباحة بالمباح ورسم بأنه : ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب عليه من حيث هو .
ثم إنه لا خلاف في أنه قد وردت آيات في القرآن الكريم تدل على إباحة بعض الأشياء كقوله تعالى : (( وكلوا واشربوا )) . وقوله تعالى (( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً )) . فمطلق الأكـل والشرب والطــعام حــــلال مباح من حيث هو ، لكنه ثار خلاف في أن ثبوت المباح هل يحتاج إلى دليل من الشرع ؟ فذهب المعتزلة إلى أنه لا معنى للإباحة إلا انتفاء الحرج في فعله وتركه ، وذلك لأن هذا الحكم ثابت قبل الشرع وهو مستمر بعده ، إذن فلا يكون حكماً شرعياً . غير أن الجمهور قالوا : لا يثبت أيُّ حكم إلا بالشرع ، كما أنه ليس معنى الإباحة ما ذكروه ، بل هي الخطاب الشرعي الدال على عدم الحرج في فعله وتركه ، فعلى هذا يكون هذا الحكم غير ثابت قبل الشرع ، وهي بهذا المعنى ليست حكماً عقلياً ، بل هو حكم شرعي ، وقد ذكر الصفي الهندي أن هذا الخلاف لفظي راجع إلى الاصطلاح ، وذلك لأنه إن عني بالمباح ما لا حرج في فعله ولا في تركه لا غير فالمباح ليس حكماً شرعياً ، وإن عني بالمباح ما ذكرناه فهو حكم شرعي لا محالة .
وخطاب الوضع له خمسة أنواع وهي السبب ، والمانع ، والشرط ، والصحة ، والبطلان . فالسبب هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الشرع على كونه معرفاً للحكم ، كجعل دلوك الشمس معرفاً لوجوب صلاة الظهر ، والمانع هو الوصف الذي دل الشرع على كونه معرفاً لعدم وجود الحكم ، وعرف أيضاً بأنه ما ينتفي الحكم لوجوده كالحيض حيث هو مانع من وجوب الصلاة على الحائض أثناءه . والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط . والصحة هي الموافقة لمقتضى ما دل عليه الشرع ، والفساد والبطلان عكس ذلك ، فالمراد بصحة العقود : أن تتحقق فيها أركانها وشروطها ، بحيث تترتب عليها آثارها الشرعية ، والبطلان عدم تحقق الأركان والشروط وبالتالي عدم ترتيب الآثار عليها فعلى ضوء ما سبق لا يختص الشرع أو التشريع بجانب الإلزام فحسب بل يعمه وغيره من الأحكام التكليفية والوضعية ، فمن الخطاب ، أو الحكم ــ سواء كان قرآناً أو سنة ـــ ما هو ملزم ، ومنه ما هو غير ملزم ، وذلك لأن كلا ً من ذلك حكم ، والحكم لا يكون إلا لله تعالى وحده .
علاقة السنة بالقرآن :
القرآن والسنة ــ كما ذكرنا ــ كلاهما وحي من عند الله تعالى غير أن الأول وحي متلو معجز ، والثاني غير متلو ، يقول الإمام الغزالي :” ولكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتاباً ، وبعضه لا يتلى وهو السنة ” ، فالقرآن الكريم لفظه ومعناه من عند الله أريد به الإعجـــاز والتحـــدي ، وأمـا السنة فهي وإن كان لفظها من عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لكن المعنى إما أن ينزل به جبريل على قلبه ، أو يصل إليه من خلال الاجتهاد ــ على قول من قال به ــ ثم يقر عليه من عند الله تعالى .
تلك هي العلاقة بينهما من حيث المعنى والتعبير ، أما العلاقة بينهما من حيث التشريع فكلاهما يكونان شرع الله ، وكلاهما تجب طاعتهما ، فلم يفرق القرآن الكريم بين طاعتيهما ، بل دل ــ بما لا مجال فيه للشك ــ على أن من لم يطع الرسول فلا يتقبل منه طاعة الله ، بل حصر محبته تعالى في اتباعه (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )) .
ثم إن السنة بمعناها العام ــ أي طريقة النبي ــ سواء كان مصدرها الكتاب أو الحديث ــ بيان لطريقة الإسلام ــ كما ذكرنا ــ وأما السنة بمعناها الخاص ــ أي أقوال النبي ، وأفعاله وتقاريره … ــ فهي إما مبينة شارحة للقرآن الكريم ، أو آتية ببعض الأحكام لا توجد فيه ، وقد ذكر الإمام الشافعي : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد سنَّ مع كتاب الله ، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب ، ثم قال :” فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه ، فاجتمعوا منها على وجهين ، … أحدهما ما أنزل الله فيه نصَّ كتاب فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب ، والآخر مما أنزل فيه جمل كتاب فبين عن الله معنى ما أراد . وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما .
والوجه الثالث : ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب ” .
فليس هناك خلاف بين علماء الأمة في كون السنة مؤكدة للقرآن ، أو مبينة وشارحة لمجملها وعامها ومطلقها ، وكذلك لا يوجد بينهم خلاف في أن السنة قد أتت ببعض أحكام لا توجد في القرآن الكريم ، يقول الشوكاني :” اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام ” . لكنهم اختلفوا في تكييف هذه الأحكام الزائدة التي جاءت بها السنة ، فذهب بعضهم ــ كما ذكر الشافعي ــ إلى أنه لم يسن سنة ً قط إلا ولها أصل في الكتاب ، فكما أن سنته تبين عدد الصلاة وعملها ، فكذلك سنته الواردة في البيوع تبين الآيات الواردة في البيوع مثل قوله تعالى : (( … لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )) ، وقوله تعالى (( وأحل الله البيع وحرَّم الربا )) وهكذا الأمر في الأحكام الأخرى التي جاءت بها السنة .
ومنهم من قال : إن السنة مما ألقى في روعه ، وأنها جاءته به رسالة الله وأن طاعتها واجبة بأمر الله تعالى فكما أن القرآن يجب طاعته فكذلك السنة ، فعلى هذا فأيُّ مانع يمنع من أن تأتي السنة بأحكام جديدة فالله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة . أي السنة .
ثم أشار الإمام الشافعي إلى أن هذا الخلاف لفظي ، لأن النتيجة واحدة حيث لا يختلف حكم الله في وجوب طاعة الرسول وأن مصدر السنة هو الله تعالى سواء كانت السنة مبينة أو مضيفة ” وأيُّ هذا فقد بيَّن أنه فرض فيه طاعة رسوله ، ولم يجعل لأحد من خلفه عذراً بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله … ” .
ويقول ابن القيم بعد أن ذكر الوجوه الثلاثة السابقة :” فلا تُعارضُ ــ أي السنة ــ القرآن بوجه عام ، فما كان منها زائد على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي( صلى الله عليه وسلم ) تجب طاعته فيه ، ولا تحل معصيته ، وليس هذا تقديماً لها على كتاب الله ، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله ، ولو كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى ، وسقطت طاعته المختصة به ، وأنه إذا ل