بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة المؤمنون
حينما نقرأ القرآن الكريم نجدنا أن كلمة جامعة للشرور والمصائب والمفاسد، ركّز عليها القرآن الكريم، و جعلها مرجعية حتى للشرك العظيم (إن الشرك لظلم عظيم). تلكم الكلمة الجامعة للشرور، وهي أم الشرور والفساد، كلمة الظلم، هذه الكلمة المستقبحة جداً في القرآن، الكلمة التي لا يقبلها الله سبحانه وتعالى لأي إنسان، الكلمة التي لا يريدها الله للمؤمنين أن يقتربوا منها ولو قيد شعرة، هذه الكلمة هي فعلاً تجمع كل الآثام والشرور، وهي أم المهالك أيضاً، وهي سبب لهلاك الفرد والأمة، بل إنها الكلمة الوحيدة التي يجعل الله عقابه عاجلاً وآجلاً في الدنيا والآخرة كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
هذه الكلمة، أمرنا الله سبحانه وتعالى بالابتعاد عنها، وأمرنا بأن ننصح العباد بالابتعاد عنها، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) والله يبيّن عاقبة الظالمين أنهم لا يفلحون ( إنه لا يفلح الظالمون)، وبأن الظلم عاقبته الخراب للديار والحياة ( وقد خاب من حمل ظلماً )، أي هلك وخسر، فإنه مستوجب للعنة الله سبحانه وتعالى، ولعنة الملائكة والناس أجمعين في الدنيا والآخرة ( ألا لعنة الله على الظالمين ) لما للظلم من آثار خطيرة، ومن إيذاء للإنسان، ولكرامة الإنسان، ولنفس وعرض وشرف وحقوق الإنسان، لحقوقه المادية والمعنوية، ولعقل الإنسان، ومال الإنسان، ولكل ما أعطاه الله للإنسان، فإن الظلم يؤثر في كل ذلك، فالظلم قد يكون على النفس بالقتل، وقد يكون على المال أو العرض أو الحقوق، ولا تتصوروا أن الظلم في الحقوق أقل من الظلم المادي، فإذا أخذ منك حق معنوي فقد ظُلمت، فهذا هو الظلم أيضاً، هذه الكلمة جامعة لكل أنواع الاعتداء والفساد، بل إن الله جعلها مرجعية للشرك، هذا الشرك الخطير، فرب العالمين يقول ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) هذا الشرك مرجعيته الظلم في حق الله سبحانه وتعالى.
وهذا دليل على أن مرجعية ديننا هو الأخلاق، ولذلك مرجعية التوحيد أيضاً إلى العدل مع الله، وإلى العدل مع العباد، فالأخلاق مرجعية لهذا الدين على الرغم من العقيدة والعبادات، فإن الله يربطهما بالجانب الأخلاقي، يربط الجانب السلبي بالظلم فيحرمه، ويربط الجانب الجانب الإيجابي من العقيدة والعبادات بالعدل والخير ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ).
وهذا أكبر دليل على أهمية الأخلاق والسلوك للإنسان، وقد بين الله في القرآن الكريم، وأستطيع أن أقول أن القصص التي تتحدث عن الظلم وعن عاقبة الظالمين لجميع أنواع الظلم، تستغرق أكثر من ثلث القرآن، ولا سيما إذا نظرنا إلى الظلم بهذا المعنى القرآني الشامل للظلم في حق الله وفي حق العباد وفي حق الحيوانات والجمادات، فأي اعتداء على الإنسان أو الحيوان أو البيئة فهو ظلم عند الله سبحانه وتعالى، ولو وسعنا هذه الدائرة لقلنا أن أكثر من نصف القرآن الكريم يتحدث عن الظلم.
الله سبحانه وتعالى حذّر من الظلم أشدّ التحذير، وقال ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) وكلمة ظلموا لم يذكر معه المفعول به مما يدل على أن أي ظلم يحدث فهو ظلم، فكان بعض التابعين حين يقرأ عليهم هذه الآية كاد أن يغمى عليهم من الخوف، من تشديد هذه الآية لأنواع الظلم الذي يشمل كل أنواعه، فلذلك بين الله عاقبة هؤلاء الظلمة بأمثلة كثيرة، منهم من بين الله عقوبته في الدنيا، لأن الظالم له عقوبتان: عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وقد جرت سنة الله أن الله يعجل إذا شاء للظلمة في العقوبة الدنيوية كما حدث بالنسبة لفرعون الذي علا في الأرض وطغى في الأرض وجعل أهلها شيعاً وبدأ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وكل ذلك لأجل حياة شخص واحد، هكذا كانوا يفعلون يستحيون النساء ليس من أجل الشفقة بهن وإنما لأجل أن تتحول النساء خادمات أو جواري أو يقمن بإشباع رغبات هؤلاء الفراعنة، والله سبحانه وتعالى أهلك هذا الفرعون، كما قص الله علينا، وكذلك أهلك جنوده وطغيانه، و جعله عبرة لمن يعتبر، ونجاه ببدنه ليكون عبرة إلى يومنا هذا.
وهكذا مع قارون وعاد وثمود وأمثلة أخرى ، أهلكهم الله، وبين الله في سورة الفجر أنه هذه سنة من سنن الله، لا يجوز للمسلم أن يشك في أن الظالم مصيره إلى الهلاك مهما علا ومهما استكبر وتجبر، فيذكر لنا مقدمتين قطعيتين، إحداهما في مجال المشاهدة والبصر، فكأن الله يقول لنا هل أنتم تشكون فيما ترونه، و يقول ( والفجر وليال عشر ) أن الفجر يأتي بعد الظلام الدامس، وهذا لا يختلف فيه اثنان، ولذلك قال الله ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي هل العاقل يحتاج إلى هذا القسم ؟ لا يحتاج! ولكن الله يؤكد ذلك للذين ختم على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة.
ثم يأتي الله بمقدمة أخرى تأريخية لا يختلف فيها اثنان أيضاً (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) فكانوا أقوياء وجبابرة وعمالقة (وثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ) كانوا ينحتون ويشقون الصخر كما يشق الرمل والطين من قوتهم وبطشهم (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) والأوتاد تشير إلى القصور العالية وإلى القوة الكبيرة، هذه القوة راحت وانتهت (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ).
هاتان المقدمتان لا يحتاجان إلى الإسلام أو غير الإسلام، فكل إنسان عاقل يرى هذين الأمرين، ويرى هاتين المقدمتين، ولايشك أن الفجر بعد الظلام، ولا يشك أن هؤلاء الأقوام قد هلكوا وقد كانوا أقوياء، ذكر الله المقدمتين للوصول إلى مقدمة يقينية وهذا هو وظيفة المسلم ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وهذه الآية لهؤلاء الطغاة الحاضرين، فكما أهلك الطغاة السابقين، وكما أن من سنته أن يأتي الفجر بعد الظلام، وهكذا الدنيا تدور والبلاء والمصائب على الطغاة الجدد، الذين عاثوا في الأرض فساداً وتكبروا وتجبروا، وربما زادوا على بعض أفعال فرعون في بعض تصرفاتهم.
وقد شهدتم وسمعتم في عصرنا الحاضر، فراعين كثيرين، كانوا يتحدثون أمام الناس كالفراعنة، ولكنه أذهب الله تعالى بهم في الحروب، وأن بعضهم حينما كانوا يفجرون الشباب في الخمسينيات بعد أن كانوا يستغيثون ربهم في السجون ويقولوا يا رب يا رب، وبعد أن كانوا يعذبون ويقتلون ويقطعون، فكان مدير السجن يستهزأ بهم ويقول – استغفر الله – ( لو نزل ربكم لسجنته معكم )، هذا الرجل جعله الله عبرة لمن يعتبر، أراد الله أن يعذبه، فمات بسبب حادث، فكان في سيارة ودخل سيارته في سيارة مليئة بالشيش والحديد، فدخل الحديد في كل عضو من أعضائه، وبقي متعذباً لأيام حتى هلك، هكذا عذبه الله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
لذلك نحن لا نييأس أبداً، والمؤمن لا يعرف اليأس أبداً، ولا يعرف الخنوع، لأننا مع الله، والله هو الخالق، وهو القادر على كل شيء ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) بل إن قلوبنا لمطمئنة أشد اطمئناناً وإيماناً من الإيمان بأن الفجر قادم، والله إن إيماننا بهذا الفجر القادم للإسلام أشد من إيماننا من أن هذا الفجر المادي الذي نشاهده كل يوم.
وما تلك المصائب والمحن إلا للتمحيص، وإلا للبيان، من يقف مع الحق من الأمراء والعلماء والأحزاب والجماعات الإسلامية وغيرها، ومن يقف مع الباطل، من يبيع نفسه لله فيضحي، ومن يبيع نفسه بالدنيا فيكسبها أو يكسب جاهاً أو يكسب وزارة أو مالاً، ولكنها عرض الحياة الدنيا.
ولذلك جاءت الآيات الكريمة تصديقاً لهذا الإيمان الذي يجب أن يبقى في قلوبنا (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) فبعد هاتين المقدمتين المقدمة القطعية المشاهدة، والمقدمة التاريخية المعروفة، التي لا يختلف فيها اثنان، ثم المقدمة اليقينة التي يجب أن تكون أقوى من المقدمتين من حيث إيماننا بها، يأتي القرآن الكريم فيخاطب هذه النفوس المطمئنة ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً )، اطمأنت النفس بنصر الله، حينئذ يخاطبها الله بهذا الخطاب الرقيق حتى لا تشك في الفجر القادم للإيمان والاسلام حينئذ يأمر الله أن تتربى هذه النفس من ذاتها تربية إيمانية لتصبح راضية بكل ما يفعله الله.
لا يجوز أن يكون الدعاة والصالحون في مقام الصبر فقط، وإنما يجب أن يرتقوا من مقام الصبر إلى مقام الرضا والشكر ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ) إذا كان هناك ربما غبش أو إشكاليات أو خلل في العقيدة أو خلل في الاعتماد على الله وعلى سنن الله، إذاً ارجع إلى ربك رجوعاً كاملاً، وفوض أمرك إلى الله تفويضاً شاملاً مع الأخذ بجميع الأسباب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولتكن نفسك راضية بما حدث، ما يفعل الله للأمة الإسلامية إلا من باب التأديب، والتأديب خير حتى نزداد الأمة إيماناً، وحتى ترتقي نفوسنا إلى الله، وتسمو أرواحنا، وتصبح قلوبنا سليمة، ويزداد يقيننا بالله سبحانه رضاء كاملاً بكل ما يحدث، والرضاء غاية الانبساط، أشد من الفرح، وتظهر أسارير الفرح على وجهك فيقال إنه راض حينئذ تصبح هذه النفس مرضية عند الله سبحانه وتعالى، فنسأل الله أن يثبت قلوب إخواننا الذين يُظلمون في سوريا ومصر والعراق وفلسطين وليبيا وميانمار وأفريقيا الوسطى وبنغلاديش والصين، وأن يجعل قلوبهم مطمئنة راضية مرضية.
الخطبة الثانية
التأريخ يذكر أن أحد الوزراء الظالمين قد اعتدى على مزرعة امرأة مسكينة، فأخذ أموالها ومسكنها وأرضها، وتركها في العراء، فشكت إليه وقالت: أوما تخاف الله أو لا تخاف أن أدعو عليك. فاستهزأ بها الرجل استهزاء وقال لها: أنصحك وأوصيك -استهزاء- أن تدعو علي في جوف الليل. فرجعت المرأة وقالت أخطأت بالمجئ إليك وإنما كان عليَّ أن أرجع إليك تنفيذاً لقوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)، والقصة حقيقية وليست قديمة كثيراً، فدعت عليه في ثلث الليل الأخير شهراً كاملاً، فتغيرت الأمور، وانقلبت الأحوال، وجاء الانقلاب، فأوتي بهذا الشخص وقطعت أيديه وأرجله من خلاف في ميدان من الميادين، وجاءت هذه المرأة وقالت: أنا لم آتيك لأن أتشفى بك وإنما جئت لأشكرك على وصيتك لأنك أنت أرشدتني إلى أن أدعو عليك في جوف الليل. ثم قالت كلمة منها:
فويل ثم ويل ثم ويل لقاض الأرض من قاضي السماء، فاقضِ كما قال هؤلاء السحرة الذين أسلموا وحسن إسلامهم ووصل إيمانهم إلى مرحلة كبيرة جداً خلال دقائق، فمن السحر والارتباط بالمال أصبحوا مؤمنين حقاً ومطمئنين وراضين، وبعد أن هددهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل وصلبهم قالوا ( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) حتى هذه الحياة الدنيا لا يقضون، فهذا جزء من الابتلاء.
لذلك هؤلاء الظلمة والقضاة اللذين يصدرون أوامرهم بإعدام العلماء وإعدام الرؤساء الذين هم أعطوا اليمين الدستوري وأقسموا أمامه بأنهم ينفذون أوامره، اليوم يقضون عليه بالإعدام، وكذلك على علماء العصر مثل أمثال الشيخ القرضاوي وغيره، أفلا يخافون الله! .
النفس الإنسانية نفخة من روح الله، ولذلك تهتز الدنيا إذا أزهق نفس بدون حق ( منْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) لذلك يقول ابن عباس في رواية صحيحة عنه: لا يقبل توبة قاتل العمد.
فالشخص مع السبق الإصرار والترصد يصدر حكماً على البريء فيقتل ليس لأي شيء فقط للمصلحة والجاه والمال، الله سبحانه وتعالى يقول ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ).
وكذلك ما يحدث في سوريا فكل يوم يقتل العشرات من الأطفال والنساء والشيوخ فقد وصل عدد الشهداء إلى أكثر من نصف مليون شهيد والمشردون والنازحون تقريباً ثلثا الشعب السوري، فإلى متى تظل البراميل تقتل الأبرياء، ألا يخافون الله! وما يحدث في العراق أسوأ وكذلك ما يحدث في مناطق إسلامية أخرى.
لذلك ندعو على هؤلاء الطواغيت وأدعوكم إلى تخصيص ثلث الليل للدعاء على هؤلاء الظلمة الطواغيت، و الدعاء كذلك للعادلين من الأمراء الذين يقفون مع الحق، ولأولياء الأمور الصالحين، وأدعو لغير الصالحين بالإصلاح وإلا فالهلاك، وأقدم دعوتهم على دعوتي، وإني أحبهم كما أحب الأمراء العادلين، وليست لنا مصلحة أبداً في الدعاء عليهم، وندعو على هؤلاء الطغاة الذين تمادوا وزايدوا على الفراعنة، ففراعنة العصر اليوم أشد من الفراعنة القدماء سواء في سوريا أو مصر أو في أي مكان.